أسرار الكوثر 20197 20193 20191 هـ - الموافق 15 فبراير 2019
بسم الله الرحمن الرحيم ، إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ، فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ،إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأَبْتَرُ .
إنّ الكوثر هو عطاء خاص للنبي صلى الله عليه وآله وسلّم لا لغيره من الأنبياء و الأولياء وهو من ناحية المفهوم يعني الخير الكثير الوسيع الشامل ولكن يا ترى ما هو هذا العطاء؟
من الضروري أن نتجول في القرآن الكريم لنعثر على مصداق هذا العطاء الربّاني، ولا داعي لسرد الآيات المتضمنّة لكلمة العطاء جميعاً بل نركّز على سورة واحدة مشتملة على آية فيها عطاء لنبينّا محمّد صلى الله عليه وآله و هو المورد الوحيد الذي يتناسب مع سورة الكوثر وهو سوة الضحى حيث يقول سبحانه (و لسوف يعطيك ربّك فترضى) فهذا المفهوم بعينه يعادل (إنّا أعطيناك الكوثر).
والأحاديث رغم تعددها تشير إلى حقيقة واحدة وهي أنّه عطاء من جنس النور العرشي فبعضها تقول بأنّها هي (الجنة) وبعضها تقول (وهى والله الشفاعة) وعن الصادق (عليه السلام): رضا جدّى ان لا يبقى في النار موحّد .
هذا : وعلماً بأنّ القرآن قد عبّر عن رسول الله صلى الله عليه وآله بأنّه هو الشمس ، وأمير المؤمنين عليه السلام هو القمر، فالكوثر هو نور الشمس (و الشمس وضحاها).
ومن هذا المنطلق نشاهد الشبه الكبير بين السورتين من أوجه مختلفة ، فكلاهما تشتملان على التبشير و الوعد و العطاء الإلهي الخاص بالرسول ، كما أنّهما يدلان على أنّ هذا العطاء أمر قيّم عظيم ، و هو نور ربّاني سماوي لطيف قد استوعب كلّ مكان و كلّ زمان ليستفيد منه جميع من و ما في الكون.
والجدير بالذكر أنّه لو فرشنا سورة الضحى في الزمان (وهو أسلوب من اساليب فهم القرآن) لشاهدنا بدايتها و نهايتها وبذلك سوف ينفتح لنا باب في معرفة حوادث التأريخ.
الضحى ، هو عصر رسول الله صلى الله عليه وآله حيث انتشر نوره في الجزيرة العربية و العالم كلّه ثم بمجرّد ارتحاله استولي الليل الأليل على الأمّة (والليل إذا سجى) ولكن الله سبحانه يسلّي نبيّه الحرسص على الأمّة بقوله (ما ودعك ربّك و ما قلى) فيقول (للآخرة ) التّي هي الضحى و نور الكوثر خير لك من (الأولى) وهي الدنيا المظلمة ، (ولسوف يعطيك ربّك فترضى) وهذا سيحافظ على خطّ الرسالة المحمّدية و يحتضن يتامى آل محمد إلى ظهور صاحبهم أعني الحجّة بن الحسن المهدي روحي فداه . وقوله (أ لم يجدك يتيما فآوى إلى آخره ) أيضاً له علاقة بذلك العطاء الرباني العظيم .
ثمّ لو طلبتم منّي أن أذكر شيئاً يشبه الكوثر أقول : إنّه هو (اليد البيضاء) الذي يعدّ من معاجز موسى على نبينا وآله وعليه السلام (وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ فِي تِسْعِ آيَاتٍ إِلَى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ)(النمل/12). حيث كانت له آثار عظيمة جداً سواء من ناحية العذاب لفرعون وملأه أو النعمة لأتباع موسى من بني إسرائيل.
ولا تظنّن بأن سور القرآن لها مفهوم واحد فقط بل هي ذات أبعاد مختلفة نذكر جانبين من سورة الكوثر فقط :
الجانب الأوّل: مقايستها مع غيرها من السور و الآيات. ومن الآيات التي تعدّ من مظاهر سورة الكوثر الآيات الثلاث من سورة الإسراء حيث قال (وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا)(الإسراء/79). تأمّل في تلك النافلة التي تقام في الليل وعلاقتها بذلك المقام الذي يغبطه الأولون و الآخرون .
ثمّ خاطب سبحانه نبيّه المكّرم (وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَانًا نَصِيرًا)(الإسراء/80). وهو المعراج بعينه الذي تمّ بغرض الإتيان بتفاحة الفردوس وهي المنصورة في السماء فاطمة في الأرض، وبذلك أصبح الشانئ أبتراً (وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا)(الإسراء/81). فالآيات هي نفس سورة الكوثر مفهوماً.
الجانب الثاني: من ناحية السير و السلوك العرفاني ، السورة المسير الصحيح فبعد العطاء للكوثر الذي هو موهبة عظيمة ربّانية جاء الأمر بالصلاة(فصلّ لربّك) ولا يخفى أنّ هذه الصلاة تقام من أجل الكوثر وكذلك (وانحر) الذي هو رفع اليد في التكبير والقنوت.
والسورة التّي تضاهي هذه هي سورة الأعلى حيث قال (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى)(الأعلى/14). (وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى)(الأعلى/15). فبعد التزكية ينبغي التركيز على اسم الرب و هم أهل البيت عليهم السلام ، ولذلك جاء في سورة النور(فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ)(النور/36). وأيضاً (رِجَالٌ لاَ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلاَ بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاَةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ)(النور/37). ومن الواضح أنّ هناك فرق بين الآيتين وإن كانتا في الحقيقة متداخلتين حيث من ذكر إسم الله فقد ذكر الله ..تأمّل. فالفلاح يتحقق بالصلاة في محضر الربّ بعد التزكية.
و الجدير بالذكر ما ورد في صلاة الزيارة ، فبعد الزيارة التي هو ذكر اسم الله نصلّي صلاتها.
فمبدئياً ينبغي لنا التزكية و التطهير ومن ثمّ دخول حرم الأئمّة عليهم السلام ، ولذلك نقول (اللهم اغفر لي وارحمني و تب علي إنّك أنت التواب الرحيم) حيث أنّ هنا هو فناء للصعود و الرفعة (في بيوت أذن الله أن ترفع) فهم عليهم السلام العرشيون حقّاً كما أنّ فاطمة من فيوضات الجنان وهي تفاحة الفردوس نزلت إلى الأرض لتمسك بيدنا فتصعد بنا إلى الملأ الأعلى،و التعبير بحبل الله و الحبل المتين يدلّ على ذلك .
من هذا المنطلق ورد (هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلاَئِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنْ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا)(الأحزاب/43). هذه هي الرحمة الرحيمية التي تعرج بالإنسان إلى الأعلى حتّى توصله إلى الجنّة (تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلاَمٌ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْرًا كَرِيمًا)(الأحزاب/44).
فالسلوك إلى الأعلى لا يتمّ إلا بهم عليهم السلام وأمّا غيرهم فلا يزيدون أتباعهم إلا خسراناً و ضياعا (إنّ شانئك هو الأبتر)
هذا: وللكوثر مواطن ثلاثة في أزمنة ثلاثة ألا وهي: السرّ، البروز، الظهور سوف نتطرّق إليها في مناسبة أخرى إن شاء الله.
إبراهيم الأنصاري
مشهد المقدّسة
8 جمادى الثانية 1440
الساعة السابعة صباحاً