وداع شهر رمضان المبارك
بسم الله الرحمن الرحيم
السَّلَامُ عَلَيْكَ يَا شَهْرَ اللَّهِ الْأَكْبَرَ، ويَا عِيدَ أَوْلِيَائِهِ.
السَّلَامُ عَلَيْكَ يَا أَكْرَمَ مَصْحُوبٍ مِنَ الْأَوْقَاتِ، ويَا خَيْرَ شَهْرٍ فِي الْأَيَّامِ والسَّاعَاتِ.
السَّلَامُ عَلَيْكَ مِنْ شَهْرٍ قَرُبَتْ فِيهِ الْآمَالُ، ونُشِرَتْ فِيهِ الْأَعْمَالُ.
السَّلَامُ عَلَيْكَ مِنْ قَرِينٍ جَلَّ قَدْرُهُ مَوْجُوداً، وأَفْجَعَ فَقْدُهُ مَفْقُوداً، ومَرْجُوٍّ آلَمَ فِرَاقُهُ.
- وداع شهر رمضان
قد مضت أغلب أيام شهر رمضان المبارك، وأصبحنا نقضي الساعات الأخيرة من هذا الشهر الفضيل، فالوداع قريب، وسنعاني من ألم الفراق قريباً.
هنا سؤالان ينبغي الإجابة عليهما:
ما المقصود بوداع شهر رمضان؟
وكيف نودع هذا الشهر الفضيل؟
- المقصود من وداع شهر رمضان المبارك
يعتقد البعض أن وداع شهر رمضان يعني وداع الحالات الروحية التي اكتسبت فيه، أو الأعمال العبادية و الطاعات التي كان يقوم بها بفضل هذا الشهر المبارك مثل كثرة تلاوة القرآن و التهجّد و غيرهما، و هذا رأيٌّ خاطئ بل على عكس ذلك، ما يجب علينا هو المحافظة على استمرارية هذه الأعمال العبادية و السعي في تطويرها.
والصحيح هو:
أن وداع هذا الشهر الفضيل يعني توديع الشهر نفسه، أعني توديع زمن هو أشرف الأزمنة، وشهر كان أوله و آخره خير، و قد أَكرم الجميعَ من خيراته، نعم شهر رمضان كان خيراً على الجميع ، سواء المؤمنين و المذنبين معاً.
فخيرُه على المؤمنين كان في الاستمتاع بالضيافة الإلهية و ازدياد الفيوضات الربّانية والتنعّم بالرحمة الرحيمية و التضاعف في ثواب العبادات، إذ قراءة آية واحدة من القران فيه تعادل ختمة كاملة.
و أما خيره للمذنبين في اجبارهم على تقليل الذنوب أو تركها إذ هم صائمون نهاره و خائفون على هتك حرمته بارتكابهم الذنوب فيه، فكم من شخص يُمسك لسانه عن الغيبة فيه، وكم من فتاة تراعي حجابها أكثر فيه، وكم من شابٍّ يطهّر فيه عينيه من الذنوب و يسيطر على شهواته، كما أن هناك من لا يصلي و لا يقرأ القران إلا في شهر رمضان.
إذاً هو شهر خير وبركة للمذنبين كما هو شهر ضيافة وإكرام للمؤمنين المتقّين ، فللمتقين علوٌ في الدرجات، وللمذنبين تركٌ للذنوب وفرصةٌ للتعبد والأنس بالقرآن.
فالجدير أن نقول بأنّ :
شهر رمضان المبارك هو شهرٌ ذو ضيافته لطيفة للغاية فلا تثقل على أحد بل الجميع يتنعّم بخيراته.
يقول آية الله السيد على الخامنائي:
" في دعاء وداع شهر رمضان كان الامام السجّاد عليه السلام ينحب كثيراً ويتشكّى من فراق هذا الشهر فيكرّر مراراً وتكراراً سلامه للشهر قائلاً السلام عليك. هذا السلام بمعنى التحية وبمعنى وداع للشهر العزيز ولأيامه ولياليه النورانيّة. وداعاً لهذه القطعة السماويّة من الجنّة من عمرنا ومن سَنَتِنا، أي وداعاً لشهر رمضان"
- أحوال المودعين
بعد انقضاء شهر رمضان ينقسم الناس إلى فئتين:
فئة تغتمّ وتحزن ويصعب عليها فراق هذا الشهر، إذ هو بالنسبة لهم كالرفيق الحسن الذي عاشوا معه مدّة من الزمن واعتادوا عليه وأنسوا به.
وفئة لا تشعر أبداً بانقضائه بل يأتي عليهم الشهر و ينتهي دون أن يشعروا به، وهذه الفئة عكس الفئة الأولى تماماً فهُم يشعرون بثقل هذا الشهر بسبب الصيام والامتناع عن الأكل والشرب لساعات طويلة، لذلك يفرحون حين انقضاءه.
مثال للتوضيح:
لو استُضيف شخص لدى صديقه وقد سرّ بقضاء الوقت معه واستمتع بصحبته وفي نهاية الأمسية يعزّ عليه فراقه، ولكن لابد وأن يودّعه وستطول مدّة الوداع وكأنه لا يريد أن يذهب، وكلما همّ بالخروج، رجع مرة أخرى ليتسامر مع رفيقه ويُطيل في الوداع فيبقى واقفاً عند الباب حباً في قضاء وقت أكثر معه، هذا هو حال الفئة الأولى و أمّا حال الفئة الثانية كحال الضيف الذي لا يستمتع بالضيافة ويستثقله ويريد أن يهمّ بالخروج بشتّى الطرق ويترك هذه الصحبة، فنراه يترقّب وقت انتهاء الأمسية ليخرج مسرعاً منها إلى الباب دون أن يلتفت لصاحبه الذي استضافه أو حتى يودّعه فقد كان مُكرهاً بالجلوس وقضاء الوقت معه.
- من الذي يودع شهر رمضان المبارك؟
وداع شهر رمضان المبارك لا يكون من نصيب الجميع، فمن لم يدرك الشهر ولم يألفه، بل كان يستثقله، أتى عليه الشهر ومضى وهو لم يشعر بمجيئه وانقضاءه، فمثل هذا لا ينال شرف الوداع. إنّما الوداع يكون لمن استأنس بالشهر واستمتع بالضيافة الإلهية واصبح تَربط بينه و بين الشهر المبارك علاقة قوية فبطبيعة الحال يصعب عليه انقضاءه، فالوداع لِمَن صاحب هذا الشهر وأضحى بالنسبة له كالصديق الحميم الذي لا يقوى على تركه، فيقف عند الباب طويلاً متلذذاً بكل لحظة معه فيودّعه حزيناً مغتمّاً لفراق هذا الرفيق.
يقول ابن طاووس في كتاب إقبال الأعمال:
"اعلم أن الوداع لشهر رمضان يحتاج إلى زيادة بيان و الناس فيه على طبقات طبقة منهم كانوا في شهر رمضان على مراد الله جل جلاله و آدابه فيه في السر و الإعلان فهؤلاء يودعون شهر الصيام وداع من صاحب الصفاء و الوفاء و حفظ الذمام كما تضمنه وداع مولانا زين العابدين عليه السلام، و طبقة منهم صاحبوا شهر رمضان تارة يكونون معه على مراد الله جل جلاله في بعض الأزمان و تارة يفارقون شروطه بالغفلة أو بالعصيان فهؤلاء إن اتفق خروج شهر رمضان و هم مفارقون له في الآداب و الاصطحاب فالمفارقون لا يودعون و لا هم يجتمعون و إنما الوداع لمن كان موفقا [مرافقا] و موافقا في مقتضى العقول والألباب و إن اتفق خروج شهر رمضان و هم في حال حسن صحبته فلهم أن يودعوه على قدر ما عاملوه في حفظ حرمته و أن يستغفروا و يندموا على ما فرطوا فيه من إضاعة شروط الصحبة و الوفاء و يبالغوا عند الوداع في التلهف و التأسف كيف عاملوه بوقت من الأوقات بالجفاء و طبقة ما كانوا في شهر رمضان مصاحبين له بالقلوب بل كان فيهم من هو كاره لشهر الصيام لأنه كان يقطعهم من عادتهم في التهوين و مراقبة علام الغيوب فهؤلاء ما كانوا مع شهر رمضان حتى يودعوه عند الانفصال و لا أحسنوا المجاورة له لما نزل بالقرب من دارهم و تكرهوا به و استقبلوه بسوء اختيارهم فلا معنى لوداعهم له عند انفصاله و لا يلتفت إلى ما تضمنه لفظ وداعهم و سوء مقالهم" إقبال الأعمال، ج1، ص: 243
يقول آيت الله جوادي الآملي: "أن وداع شهر رمضان يختص بمن أنس الشهر وأحبّه وصاحبه، وإلا فإن الشخص الذي لم يكن في هذا الشهر لا يحتاج لأن يودّعه، فالانسان يودّع صاحبه أو من قضى معه مدّة من الزمن في أُنس. فالذي لا يعرف متى أتى شهر رمضان وأي وقت مضى فيه ولِمَ أتى الشهر ولِمَ انقضى، لا وداع له"
- فرصة أخيرة للعروج
قد ورد في رواية عن الْحَسَنِ بْنِ رَاشِدٍ قَالَ: قُلْتُ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ عليه السلام " إِنَّ النَّاسَ يَقُولُونَ إِنَّ الْمَغْفِرَةَ تَنْزِلُ عَلَى مَنْ صَامَ- شَهْرَ رَمَضَانَ لَيْلَةَ الْقَدْرِ؟ فَقَالَ يَا حَسَنُ إِنَّ الْقَارِيجَارَ إِنَّمَا يُعْطَى أُجْرَتَهُ عِنْدَ فَرَاغِهِ وَ ذَلِكَ لَيْلَةُ الْعِيد" من لا یحضره الفقیه ج2 ص167
فإن الله سبحانه وتعالى يعطي أجر الصائم فور انتهاء الشهر وينهل على الصائمين رزقهم وأجرهم ويسبغ عليهم بمنّه وبركاته ويقسّم عليهم (العيادي)، فيحصل الصائم على أجره ليلة العيد، و لهذا الأمر أصبح يوم العيد يوماً مباركاً ، فيُغبَط الصائم بما يحصل عليه من الأجر والمنّ والبركة والعيادي مقابل ما قام به من الأعمال في هذا الشهر الفضيل.
يقول الشيخ جعفر الناصري: "الصائم الذي صام الشهر لآخره، يحصل على أجره في آخر الشهر، أما ليلة القدر فهي الليلة التي تُقدّر فيها الأقدار"
- فالسؤال هنا هو ماذا بالنسبة لمن لم يُدرك الشهر ولم يشعر به ابداً!! بل لعلّه ارتكب الذنوب فيه سهواً أو عمداً وضيّع أوقاته باللهو واللعب، فهل يُشمل مثله في من يوزع عليهم العطايا ويقسّم عليهم الجوائز ويسبغ عليهم البركات والعيادي؟ هل يستطيع الحصول على مثل تلك الهدايا والأرزاق التي يحصل عليها المتّقون و المدركون لهذا الشهر؟ ام حتى القليل الزهيد منها ؟ ام لايكون له فيه حظا و لا نصيباً؟!
- الجواب هو نعم، فإن الله سبحانه وتعالى عَظُمت رحمته وكرمه، هو فقط يريد من الإنسان أن يطلب منه، ونحن عندما نطلب منه تعالى يجب أن نطلب الكثير و نتيقّن أنه لا تنقص خزائنه بل تفيض، ومن يطلب القليل من الله أو يكون سقف توقعاته متدنية لم يعرف الله سبحانه وتعالى حق المعرفة، وكأنه يقلّل من شأنه جلّ و علا، فمثله مثل العطشان الشديد العطش الذي قصد البحر طالباً منه قطرة من الماء! غافلاً انه يستطيع ان يطلب المزيد، فالبحر لا يمنعه شئ عن العطاء، فحتى لو طَلب منه جالوناً من الماء فلا ينقص من ماءه، وكأنه يستصغر البحر ويهينه بطلبه هذا، فهو لا يعرف البحر حق المعرفة.
لابد لنا أن نتمعن فيما يقوله الإمام السجاد عليه السلام في وداع شهر رمضان المبارك:
" اللَّهُمَّ وَ مَنْ رَعَى هَذَا الشَّهْرَ حَقَّ رِعَايَتِهِ ، وَ حَفِظَ حُرْمَتَهُ حَقَّ حِفْظِهَا ، وَ قَامَ بِحُدُودِهِ حَقَّ قِيَامِهَا ، وَ اتَّقَى ذُنُوبَهُ حَقَّ تُقَاتِهَا ، أَوْ تَقَرَّبَ إِلَيْكَ بِقُرْبَةٍ أَوْجَبَت رِضَاكَ لَهُ ، وَ عَطَفت رَحْمَتَكَ عَلَيْهِ ، فَهَبْ لَنَا مِثْلَهُ مِنْ وُجْدِكَ ، وَ أَعْطِنَا أَضْعَافَهُ مِنْ فَضْلِكَ ، فَإِنَّ فَضْلَكَ لَا يَغِيضُ ، وَ إِنَّ خَزَائِنَكَ لَا تَنْقُصُ بَلْ تَفِيضُ ، وَ إِنَّ مَعَادِنَ إِحْسَانِكَ لَا تَفْنَى ، وَ إِنَّ عَطَاءَكَ لَلْعَطَاءُ الْمُهَنَّا، اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَ آلِهِ ، وَ اكْتُبْ لَنَا مِثْلَ أُجُورِ مَنْ صَامَهُ ، أَوْ تَعَبَّدَ لَكَ فِيهِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ."
فكما نرى أن الامام يعلّم الإنسان المقصر، الذي اضاع الوقت وأساء للشهر وفرّط فيه أن يعوّض هذه الخسارة و يطلب من الله سبحانه وتعالى مثل أجر العاملين والمتّقين الذين عرفوا هذا الشهر حق معرفته بل أضعافا من أجرهم.
فيجب علينا أن نرفع هممنا ونتوقّع الكثير ولا نقول بما أننا قصرنا وضيّعنا حق الشهر فلن ننال من الأجر والخير والبركات إلا القليل اليسير، فكيف لي ان احصل على مثل أجر المتقين بل أكثر منهم وأنا لم افعل شيئاً في المقابل، بل قضيت الشهر نوماً وأكلاً ، ملتهياً بالدنيا والآن في هذه الساعات الأخيرة من الشهر اطمع بأن يكون لي ليس فقط كأجرهم بل أجراً يمتد على مدى الدهور والأزمنة إلى يوم القيامة!! فإن هذه الطريقة في التعامل تتواجد بين الناس وبعضهم البعض، كالذي لا يقدم الخير لغيره فيرى أنه لا يجب عليه أن يتوقع الخير من الغير، أو الإنسان الذي لم يقض حاجة صديقه فلا يتوقع أن تُقضى حاجته منه. ولكن نحن الآن في ضيافة الرب الرحيم الذي وسعت كل شي رحمته ، فلا ينبغي لنا ان نتعامل مع الله بمثل ما نتعامل به مع الناس، فالله هو الرحيم الكريم هو الوجود المطلق الذي لا حد له، فعلينا أن نطلب من الله كل الخيرات التي كان بإمكاننا الحصول عليها في حال عدم التقصير، نطلب أجر العاملين المتقّين الذين لم يهدروا حتى ثانية واحدة من هذا الشهر واستفادوا منه أقصى استفادة ممكنة و عرفوه حق المعرفة بل وأكثر من أجرهم هذا.
- فلذلك ينبعي علينا أن نتأمل في كلام الإمام عليه السلام على لسان الإنسان المقصرّ والذي فرّط في هذا الشهر، فلنقف قليلاً عند هذه الكلمات والمعاني العميقة، فليس بالأمر البسيط الاعتيادي عندما يقول على لسان المقصرّ أن أي رب أعطني أجراً كأجر المتّقين المتفانين في عملهم و كالذين أدركوا شهر رمضان و عرفوه حق المعرفة، بل أضعاف أجرهم !!! هذه أقوال عظيمة جداً، ولو لم يقلها الإمام ولم يطلب منا أن ندعوا الله بها، لما كنا نتجرأ ونُفطن لندعوه سبحانه بهذه الطريقة، بل كنا سنخجل أن نطلب مثل هذا الأجر و الثواب الوفير مقابل لا شيء ، ولكن عندما يطلب منا الإمام المعصوم أن ندعو الله تعالى هكذا، فهذا يؤكد لنا حتمية استجابة الله لمثل هذه الدعوات، إذ لو لم يكن الله يستجيب لمثل هذه الدعوات، لكان أصل الدعاء بها قبيح، والإمام المعصوم لا يفعل القبيح البته، إذاً في هذه الساعات المتبقيّة من الشهر وعلى الرغم من أننا اهدرنا الشهر الفضيل، نستطيع أن نحصل بمقدار من عرف وأدرك الشهر واستفاد من كل ثانية فيه وأكثر من ذلك، وما علينا إلا الطلب، نطلب ذلك ونلح في الطلب ونستشعر الحاجة والفقر في أنفسنا، نطلب من الله أن يغنينا من فضله وأن يمنّ علينا ببركاته ويسبغ علينا من رحمته ومغفرته، لكي ننال هذا الأجر العظيم فالإنسان العَطِش لن يتوانى لحظة واحدة عن الإلحاح في الحصول على ما يروي عطشه ولن يُقرّ ويهدأ له بال حتى يصل لمبتغاه، أمّا من لا يشعر بالعطش لن يحصل الماء ولن يسعى في البحث عنه، و إن قال العكس فهو كاذب لأن العطشان الحقيقي لا يهدأ إلا بعد أن يتجرّع الماء حتى يرتوي منه، ونحن أيضاً كذلك إذا لم نستشعر فقرنا لله لن ندعوه ونرجوه بحقّ.
- حصيلة شهر رمضان المبارك
قالَ الرِّضَا عليه السلام: "الْحَسَنَاتُ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ مَقْبُولَةٌ وَ السَّيِّئَاتُ فِيهِ مَغْفُورَةٌ" فضائل الأشهر الثلاثة / 97
قد تكون حصيلة شهر رمضان المبارك هي الطّهارة للجميع و لكن الناس ليسوا على سواء فيها، فتكون لبعضهم طهارة كليّة وللبعض الآخر طهارة نسبية، ولكن ما هو مهم هنا هو تحقق الطهارة نفسها والتي هي شرط لازم لجميع المقامات المعنوية، فهناك فئة من الخواص استطاعت الوصول للطهارة الكليّة في هذا الشهر الفضيل وأصبح وجودهم ربّاني وأيضاً صفاتهم و أفعالهم باتت حقّانية كوجودهم، فأضحوا ينظرون بعين الله و يسمعون بأُذُن الله، بل أصبح بعضهم أرفع من ذلك مقاماً و منزلةً أي:
(الله يسمع بأُذُنهم و ينظر بعينهم) فهنيئاً لهم هذا المقام العظيم.
وأما بقية الصائمين فجميعهم وصلوا الى الطهارة النسبية و هي أيضا درجات، ففي شهر رمضان المبارك قلّت ذنوب المذنبين وانشغلت أيامهم بالالتفاف للمعبود الحقيقي بمجرد أنهم عاشوا في ضيافته وتحلّوا ببركاته وفيوضاته واستمدّوا من الأنوار الإلهية، وعلى الرغم من أن البعض لم يستشعر ذلك إلا أن لهم نصيباً و حظاً من الطهارة النسبية كذلك، فجلّ ما يجب عليهم الآن هو اقتناص هذه الفرصة الذهبية والسعي في الارتقاء بالطهارة النسبية و إيصالها إلى مرحلة الطهارة الكلية والتجرّد من الوجود المادّي ليحييهم الله بالوجود الحقاني ، فهم في شهر رمضان تنزّهوا عن تعلقاتهم الدنيوية ولو قليلاً والآن لابد أن يكملوا مسيرهم وينزعوا من أنفسهم حب الدنيا وكل ما يتعلق بها، فقد قلّصوا طوال الشهر من استمتاعهم بالملذات الدنيوية من أكل وشرب وغيرها، وانغمسوا في التوجه لله وللعبادة وتركوا الجري وراء الدنيا، فحصلوا على طهارة نسبية، فالآن هو الوقت الأنسب لهم ليخطوا في طريق الفناء ويحصلوا على " تجارة لن تبور"، ويموتوا قبل أن يموتوا.
- احذر من هذه الحيلة الشيطانية
يقول الشيخ جعفر الناصري: "بطبيعة الحال بعد شهر رمضان المبارك يرجع الانسان لما كان عليه، وفي الحقيقة أن الحفاظ على الروحية العالية أمر صعب يحتاج للعلم والمعرفة والرُّشد، لذلك لا ينبغي للإنسان ان يترك كل ما كان يعمله، فقد كان طوال شهر رمضان، صائماً نهاره، تالياً للقرآن بكثرة، ينام ساعات قليلة، وطعامه من إفطار وسحر كان قليلاً أيضاً، وقد قطع شوطاً طويلاً، فلنفترض بأنه كان يصوم أربعين يوماً أو طوال شهر رمضان وفجأة يتوقف بتاتاً عن الصيام، ولا يقرأ القرآن، ويَكثر طعامه ونومه، وتلك الساعات التي كان يقضيها في خلوة مع الله أصبحت مشغولة بأعمال غير عبادية ووو..وهذا ما يجعل المشاكل تنصب عليه دفعة واحدة، هذه الطريقة في رجوع الشخص إلى ما كان عليه قبل شهر رمضان تجعل الكثيرين يقعون في الخطر"
فعلى الانسان أن يثبت على ذلك المنوال والنمط الذي اعتاد عليه في شهر رمضان ويداوم على الحالات الروحيّة العديدة التي اكتسبها، ولا يتركها خاصةً في أيام العيد التي هي مهمّة جداً في المحافظة على سموّ الروح، بل عليه في هذه الأيام أن يرتقي أكثر ويطوّر من نفسه حتى لا ينصدم الروح و تكون له ردة فعل عكسية، فإن من حِيَل الشيطان إيهامنا بأنها فقط عدّة أيام وبحجّة صلة الرحم وبأننا سنرجع قريباً على ما كنا عليه من الحالات الروحية التي كانت لدينا، وللأسف الشديد بعض الناس غالباً ما يقعون في هذه الحيلة وينحرفون عن المسار انحرافاً تاماً، وبعد انقضاء ايام العيد يبذلون جهداً للرجوع لتلك الروحيّة والحالة التي كانت تغمرهم في شهر رمضان ولكن يصعب ويشقّ عليهم، غافلين أن علّة ذلك هي ابتعاد ارواحهم فجأة عن كل الأمور التي كانوا يقومون بها ، لأنه منافٍ للطبيعة، ولذلك علماء النفس يتفقون على ان الشخص لو اعتاد على نمط معين من العيش وأراد أن يغيّر هذا النمط يجب أن يكون التغيير تغييراً تدريجياً وخلاف ذلك سيكون له أثر عكسي وسيسبب له مشاكل هو في غنىً عنها.
و كذلك اذا استهلك الانسان ٣ ايام كاملة في أمور قد تجاهلتها الروح شهراً كاملاً، كالكثرة المفرطة في الأكل والنوم و الإيقاع في الذنوب سهواً کان ام عمداً، او الانغماس الشديد في مشاغل الدنيا، فحتماً سوف يرى نتيجة عكسية سلبية.
لذلك ينبغي لنا حتى في ايام العيد وعند أداء صلة الرحم والمُعايدة أن نمسك بزمام الأمور حتى لا نخسر ما جنيناه في شهر رمضان ونتشبّث به حتى شهر رمضان القادم.
وتوجد بين أيدينا روايات تنصّ على استحباب صيام ٦ ايام بعد عيد الفطر المبارك، ومن المحتمل أن يكون أحد أهداف ذلك وقاية الروح من الصدمة بالتغيّر المفاجئ وبالتالي هدر ٣٠ يوماً من الإصلاح.
فمن المهم جداً يا أحبائي أن نثبت على هذه الحالة الروحية التي جنيناها وحصدناها خلال ٣٠ يوم صوماً وعبادةً وتقرباً لله، ونجاهد لتقويتها واستثمارها ومواصلة هذا المسير بالعمل الدؤوب، فحرّيٌ بنا أن نضع لأنفسنا خططاً واضحة متدرجة وجدولاً زمنياً ندوام فيه على العبادات، نعم ليس من الواجب او المحتّم علينا ان نقوم بكل الأعمال التي كنا نقوم بها ولكن بعض العادات البسيطة منها قلة الأكل والنوم، او تجويع البطن لساعات طوال والتي لها الأثر المهم في تهذيب النفس، ومن الأفضل ان تكون هذه الامور ثابتة لدينا وشيئاً فشيئاً نتطور ويرتقي الروح رويداً رويداً ليصل الى لقاء الله.
عن الإمام الصادق (عليه السلام):" مَنْ عَمِلَ عَمَلًا مِنْ أَعْمَالِ الْخَيْرِ فَلْيَدُمْ عَلَيْهِ سَنَةً وَ لَا يَقْطَعْهُ دُونَهَا" بحار الأنوار ج84 ص : 26
والسلام عليكم و رحمة الله و بركاته
مريم الأنصاري 27 رمضان 1441