الحج الإبراهيمي و اللقاء الموسوي 20217 20213 20211 هـ - الموافق 19 يوليو 2021
الشبه بين الحج الإبراهيمي و اللقاء الموسوي في طور:
سؤال يطرح نفسه و هو:
لماذا في العشرة الأوائل من ذي الحجّة يكون التركيز على موسى بن عمران عليه السلام ، خصوصاً من خلال ركعتي الصلاة المشتملة على الآية المباركة (وَ واعَدْنا مُوسى ثَلاثینَ لَیْلَةً وَ أَتْمَمْناها بِعَشْرٍ فَتَمَّ میقاتُ رَبِّهِ أَرْبَعینَ لَیْلَةً وَ قالَ مُوسى لأَخیهِ هارُونَ اخْلُفْنی فی قَوْمی وَ أَصْلِحْ وَ لا تَتَّبِعْ سَبیلَ الْمُفْسِدینَ) [اعراف۱۴۲]
علما بأنّ هذه الحادثة لم تتحقق في مراسيم الحجّ بل وقعت في جبل الطور؟
فهل هناك ارتباط بين الحادثتين، أم ماذا؟
فلنتدبّر و لنتفقّه في الأمر لعلّنا كشفنا بعض الحقائق الكامنة وراء الستار .
- لاحظ قوله تعالى في قصّة موسى: (فَتَمَّ میقاتُ رَبِّهِ)، فهنا ميقات كميقات الحجّ، غاية ما هناك هنا الميقات زمانّي و في الحجّ الميقات يتعيّن في مكان خاص،علماّ بأنّ هناك ارتباط وثيق بين الزمان و المكان قد أثبته الحكماء.
وأيضاً هذه العشرة كانت العشرة الأولى من شهر ذي الحجّة
(كما ذكر ذلك المفسرون من الفريقين) (..عن الصادق صلوات الله عليه: أن الأيام المعلومات عشر ذى الحجة) مصباح المتهجد671
فقصّة موسى تتطابق زماناً مع حجّ بيت الله الحرام ، فهذا الوجه الأوّل للشبه بين القضيتين.
2- لاحظ الآية التّي تتلوها وهي : (وَ لَمّا جاءَ مُوسى لِمیقاتِنا وَ کَلَّمَهُ رَبُّهُ قالَ رَبِّ أَرِنی أَنْظُرْ إِلَیْکَ...) هذا هو حقيقة (عرفه) لأنّ عرفة هو موسم المعرفة، فأراد موسى أن يضاعف معرفته لربّه من خلال النظر إلى وجهه أعني الربوبيّة فيصل إلى لقاء الرب تعالى!
فعرفة متواجدة في كلا الميقاتين الحجّ الإبراهيمي واللقاء الموسوي أو بالأحرى الحجّ الموسوي .
3-أيضاً من وجوه الشبه هو ما ورد في قوله تعالى: (قالَ یا مُوسى إِنِّی اصْطَفَیْتُکَ عَلَى النّاسِ بِرِسالاتی وَبِکَلامی فَخُذْ ما آتَیْتُکَ وَ کُنْ مِنَ الشّاکِرینَ) [اعراف۱۴۴]
وهذا بعد انتهاء الأربعين ليلة، فيا ترى ما هو هذا الاصطفاء؟ إنّه هو العطاء الإلهي ، وهذا هو العيد بعينه! ينبغي أن يفرح موسى بذلك و يشكر ربّه على هذه النعمة العرشية، هذا و قد أضاف سبحانه على هذه العطايا ما ورد في قوله:
(وَ کَتَبْنا لَهُ فِی اْلأَلْواحِ مِنْ کُلِّ شَیْءٍ مَوْعِظَةً وَ تَفْصیلاً لِکُلِّ شَیْءٍ فَخُذْها بِقُوَّةٍ وَ أْمُرْ قَوْمَکَ یَأْخُذُوا بِأَحْسَنِها سَأُریکُم دار الْفاسِقینَ)[اعراف۱۴۵]
4-الإبتعاد عن مظاهر الدنيا أعنى الإحرام ومحرمّات الإحرام في الحج الإبراهيمي، نشاهد أيضا هنا في ميقات موسى، وذلك من خلال التأمّل في قوله تعالى (فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِي يَامُوسَى )(طه/11). (إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِي الْمُقَدَّسِ طُوًى)(طه/12). وعلى حدّ تعبير السيد الإمام الخميني رحمه الله : النعلان هما كناية عن الدنيا الدنيّة ، فينبغي الإبعاد عن الدنيا وزينتها.
5- قال تعالى (حُنَفاءَ لِلّهِ غَیْرَ مُشْرِکینَ بِهِ) هذه صفة لمن يريد أن يحقق الحجّ الإبراهيمي ، و الحنيفيّة تعني التركيز على وجه الله للوصول إلى لقاء الله ولذلك قال بعدها مباشرة(غير مشركين به) لدفع الدخل المتوهم ، فهذا ليس من الشرك في شيء بل هو عين التوحيد . هذا وفي الحج الموسوي أيضاً نلاحظ التركيز على (الربّ) (قالَ رَبِّ أَرِنی أَنْظُرْ إِلَیْك) فحديثه مع الربّ ، فمن هو الربّ ؟
جواب هذا السؤال تراه في قصّة إبراهيم عليه السلام حيث دخل في الملكوت وشاهد ما شاهد ثمّ رجع (فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لاَ أُحِبُّ الآفِلِينَ)(الأنعام/76). (فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنْ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ)(الأنعام/77). (فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَاقَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ)(الأنعام/78). (إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِي لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنْ الْمُشْرِكِينَ)(الأنعام/79).
لاحظ أنّ إبراهيم لم يُطلق كلمة الله عليها، بل قال (هذا ربّي). والربّ هو المربّي الملكوتي ،فموسى يعلم قطعاً بأن الله غير قابل للرؤية، والدليل على ذلك ما ورد عن لقاءه و أخذ سبعين رجلاً معه، ففي عيون أخبار الرضا عليه السلام باسناده عن علي بن محمد بن الجهم قال: حضرت مجلس المأمون وعنده الرضا (عليه السلام) فقال له المأمون: يابن رسول الله (صلى الله عليه وآله) اليس من قولك: ان الانبياء معصومون؟ قال: بلى، قال: فما معنى قول الله عزوجل إلى أن قال: " ولما جاء موسى لميقاتنا وكلمه ربه قال رب ارني انظر اليك قال لن تراني " الآية كيف يجوز أن يكون كليم الله موسى بن عمران (عليه السلام) لا يعلم ان الله تعالى ذكره لا تجوز عليه الرؤية حتى يسأله هذا السؤال؟ قال الرضا (عليه السلام): ان كليم الله موسى بن عمران (عليه السلام) علم ان الله تعالى منزه عن أن يرى بالابصار، ولكنه لما كلمه الله عزوجل وقربه نجيا رجع إلى قومه فأخبرهم ان الله تعالى كلمه وقربه وناجاه فقالوا: لن نؤمن لك حتى نسمع كلامه كما سمعته، وكان القوم سبع مأة ألف رجل فاختار منهم سبعين الفا ثم اختار سبعة آلاف، ثم اختار منهم سبعمأة، ثم اختار منهم سبعين رجلا لميقات ربه فخرج بهم إلى طور سيناء فأقامهم في سفح الجبل وصعد موسى (عليه السلام) إلى الطور وسأل الله عزوجل أن يكلمه ويسمعهم كلامه، فكلمه الله تعالى ذكره وسمعوا كلامه من فوق واسفل ويمين وشمال ووراء وامام، لان الله تعالى أحدثه في الشجرة ثم جعله منبعثا منها حتى يسمعوه من جميع الوجوه، فقالوا: لن نؤمن بان هذا الذي سمعناه كلام الله حتى نرى الله جهرة، فلما قالوا هذا القول العظيم واستكبروا وعتوا بعث الله عليهم صاعقة وأخذتهم الصاعقة بظلمهم فماتوا ).
فالحاصل أنّ موسى عليه السلام يريد من (الربّ) هو الرب الملكوتي، الذي شاهده إبراهيم عليه السلام من قبل ، فهو عندما جاء إلى الدنيا كان بصدد العثور على مصداق الربّ فرأى الشمس و القمر و الكواكب فلم يتقبّلها ، ثمّ قال (إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِي لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنْ الْمُشْرِكِينَ)(الأنعام/79). كما أنّ موسى عليه السلام أيضاً كان بصدد العثور على مصداق الربّ ، فكلا النبيَين كانا يبحثان عن أمر واحد بلا فرق بينهما.
أجابه الله بقول (لن تراني) وذلك لأنّها كانت حقيقة ملكوتية و الحقائق الملكوتية لا تتحمّلها الدنيا، فمن المستحيل أن يشاهد الربّ في الدنيا.
(وَ لکِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ) أي ركّز على الجبل (فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَکانَهُ فَسَوْفَ تَرانی) فلم يظهر الرب سبحانه، بل أثَّر في الكون (فَلَمّا تَجَلّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَکًّا وَ خَرَّ مُوسى صَعِقًا) فلو تأمّلنا في قوله (خَرَّ مُوسى صَعِقًا) لشاهدناه في قصّة الحج الإبراهيمي (وَ مَنْ یُشْرِکْ بِاللّهِ فَکَأَنَّما خَرَّ مِنَ السَّماءِ) فكلاهما ينبعان من منهل واحد فكلاهما يرتبطان بعرفة وكلاهما ينطلقان من منطلق واحد وهو أنّ الربّ الملكوتي ينبغي أن يكون له مصداق في العين لكي ننسّق أمورنا معه .
وكلاهما كانا بصدد العثور على الربّ الملكوتي ، أمّا فيما لو أفرط في الأمر (فكأنّما خرّ من السماء) و أيضاً (و خرّ موسى صعقا).( فَلَمّا أَفاقَ قالَ سُبْحانَکَ تُبْتُ إِلَیْکَ وَ أَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنینَ )[اعراف۱۴۳]
6- لا حظ قوله تعالى(تُبْتُ إِلَیْکَ وَ أَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنینَ ) وهنا التوبة تعني أنّه ينبغي لي أن أرتقي أنا لأصَلَ إليك ، لا أن تُنزّل نفسك إليّ يا ربّ . هذه التوبة بعينها جاءت في الحجّ الإبراهيمي (...وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ)(البقرة/128). والمقصود هنا (ارتق بنا إلى الارتفاع و إلى الأعلى ) وهذا هو السرّ الكامن في رفع القواعد من البيت !
هنا ترى بأن إبراهيم عليه السلام و موسى عليه السلام كلاهما أرادا الوصول إلى الربّ في هذه الدنيا، ثمّ عَلِما بأنّهما لا بد وأن يرتقيا إلى الأعلى للقاء الربّ وذلك من خلال حقيقة (التوبة) التي هي الارتقاء إلى الملكوت حتّى الوصول إلى محضر الربّ الملكوتي لو نظرنا من زاوية، ولو غيّرنا زاوية النظر نقول : الوصول إلى محضر السلطان الملكوتي كما ورد ذلك في القرآن الكريم.
نشاهد أنّ إبراهيم عليه السلام رغم كونه من أولي العزم كان منسجماً مع ذلك النور الملكوتي وذاك النور هو أفضل من إبراهيم عليه السلام ، وهو يعلم بأنّ هذا النور ليست له شخصيّة مستقلّة ، هذا النور ليس هو الله وليس هو شخص من دون الله ، هو مرآة صافية ينعكس فيه نور الله وكل ما يريده الله يتحقق في هذا النور ! كيف يكون ذلك ؟
الله سبحانه قد صرّح بهذا في قوله (يد الله فوق أيديهم) (عين الله)(ثار الله) (نور الله).
فقال موسى (وَ أَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنینَ) من ناحية الزمان و من ناحية الدرجة والرتبة ، فالحاصل أنّ عرفة متواجد في الحج الموسوي و أيضاً في الحج الإبراهيمي .
ثمّ يأتي دور العطايا لإبراهيم عليه السلام (ذلِکَ وَ مَنْ یُعَظِّمْ شَعائِرَ اللّهِ فَإِنَّها مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ (۳۲) لَکُمْ فیها مَنافِعُ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ مَحِلُّها إِلَى الْبَیْتِ الْعَتیقِ) [حجّ۳۳]
وأمّا موسى عليه السلام (یا مُوسى إِنِّی اصْطَفَیْتُکَ عَلَى النّاسِ بِرِسالاتی وَ بِکَلامی فَخُذْ ما آتَیْتُکَ وَ کُنْ مِنَ الشّاکِرینَ ) هذا الشكر من أجل العطاء الإلهي وهو من ثمرات العيد .
والنتيجة أنّ هناك شبها واضحاً بين حادثة إبراهيم الخليل عليه السلام و قصّة موسى .
إبراهيم الأنصاري
البحرين – المنامة
11 ذو الحجّة 1440