محاربة العشق في كربلاء !
بسم الله الرحمن الرحيم
ثقافة الأنانية وثقافة العشق
قَالَ البَاقِرُ عليه السلام: (خَرَجَ عَلِيّ يَسِيرُ بِالنَّاسِ، حتّى إذَا كَانَ بِكَرْبَلاَءَ عَلَی مِيلَيْنِ أوْ مِيلٍ، تَقَدَّمَ بَيْنَ أيْدِيهِمْ حتّى طَافَ بِمَكَانٍ يُقَالُ لَهُ: المِقْدَفَانِ. فَقَالَ: قُتِلَ فِيهَا مِائَتَا نَبِيّ وَ مِائَتَا سِبْطٍ كُلُّهُمْ شُهَدَاءُ. وَ مَنَاخُ رِكَابٍ وَ مَصَارِعُ عُشَّاقٍ شُهَدَاءَ. لاَ يَسْبِقُهُمْ مَنْ كَانَ قَبْلَهُمْ؛ وَ لاَ يَلْحَقُهُمْ مَنْ بَعْدَهُمْ.)
موضوع البحث يرتبط بكربلاء و بهذا الحديث الشريف وعنوانه صراع ثقافتين ثقافة الأنانية وثقافة العشق وانتصار ثقافة العشق في كربلاء، وسنتحدث عن الأنانية وعن العشق ونرى كيف يمكن للعاشق أن ينتصر على الأناني بشكل لطيف بدون حرب خشنة.
والحديث في أربع نقاط ونتيجة:
النقطة الأولى: الأنانية والإنية
الأنانية: كما يقول علماء اللغة هي مصدر صناعي أصلها من أنا، والمصادر الصناعية في اللغة العربية كثيرة مثل الكيفيّة والكميّة والهَليَّة.
والأنانية هي أن يرى الإنسان ذاته وماهيته وحقيقته ويقول أنا شخص ابن فلان صاحب المنصب الفلاني وما شابه ذلك. بمعنى أن يكون هو المحور لكل شيء فالقبيح ما كان قبيحاً في نظره والجميل ما كان جميلاً في نظره، والحق الذي يراه هو حق والذي يراه باطل فهو باطل، فالمحور هو الإنسان وأمّا من يحرِّك هذا الإنسان فهذا بحث آخر
فالأنانية صفة سيّئة جداً بمعنى الكلمة ولا يوجد أسوأ منها، وهذه الصفة مع الأسف أصبحت اليوم ثقافة في الغرب حيث يُقال للشخص اعمل لنفسك واهتم بنفسك و بعائلتك وكل ما يخصك انت وفقط ولكن صبغوها بصبغة جميلة بحيث أن الناس يقولوا صحيح يجب أن نفكر في أنفسنا وفي مستقبلنا ومستقبل أولادنا أو مستقبل بلدي.
وهناك مصطلح آخر وهو الإنِّية، والإنيَّة: هي أن يرى الإنسان نوره أي وجوده الخاص ويغفل عن أنّ هذا الوجود مرتبط بالله عز وجل، وهذا ما يطلق عليه حجاب نوراني، وأما الأنانية فهي الحجاب الظلماني.
والخطر ليس في الأنانيّة فقط بل في الأنانيّة والإنيّة معاً
و في مقابل الأنانية تأتي صفة العشق وهي (اللا أنانية) بمعنى أن يحب الانسان جهة من الجهات ويراها محور محوراً لوجوده فيضحِّي في سبيلها.
والانسان بطبعه يحب العشق لأنه يرى أن التضحية شيئ جميل، وإن تباينت تلك الجهة التي يضحي في سبيلها فقد يضحي في سبيل الله أو في سبيل فلان ولكنها عموماً شيء حسن لأنه يقدم حياته في سبيل معشوقه، إذن فالعشق مقولة ضد الأنانية تماماً.
هل الأنانيّة مذمومة مطلقاً؟
الأنانية في حد ذاتها ليست سيئة بل هي أمر جبل عليه الإنسان حتى يشعر بالاستقلالية فهي أمر معجون في فطرته، فاحساس الانسان بأنه مستقل في حد ذاته أمر جيد ولكنه قد يستحيل إلى صفة سيئة ومذمومة حينما ينقلب إلى التكبر والغرور و حب الدنيا والذي يمثل ثعباناً خطيراً وهنا تكمن المشكلة.
لا إله إلا الله
صفة الأنانية تتجلى في قولنا لا إله فيما لو اقتصرنا عليها إذ انها تعني حينذاك: أني لا أعترف بأحد، وعند ذلك تقع المشكلة لأنها تكون قد استحالت إلى الاستقلالية التي ليس وراءها عشق، ولكنك إذا قلت بعدها إلاّ الله فالأمر يتغير، لأنك ترى استقلاليتك التي لو افتقدتها لن تتمكن من اتخاذ القرار، فالاستقلالية منحت للانسان من أجل أن يملك زمام قراراته وبناء على ذلك يعشق. فكلمة لا إله إلا الله بمثابة أن يقول الانسان: ( أنا مستقل وغير مرتبط بأحد وهذه الشخصية المستقلة سأفديها في سبيل الله ) وهذا شيءٌ عجيب.
فالله سبحانه وتعالى هو من أودع الأنانيّة والعشق عند الانسان في الوقت ذاته، فالأنانية في لا إله والعشق في إلاّ الله، إذن لا إله إلاّ الله هي تشكِّل الأنانية والعشق معاً، بمعنى أنها تُحدِّ الأنانية وتوصلها وجود شيء مقدس يفدي الانسان نفسه المستقلة في سبيله، وعلى هذا الأساس فإن الأنانية صفة جيدة، ولكن المشكلة فيما لو وصلت إلى مرحلة الغرور والتكبر.
النقطة الثانية: الأنانية ليست مدرسة
جعل الغرب الأنانية مدرسة و اعتبروا الانسان هو المحور فليس هناك ما يحركه في المجتمع سوى مصالحه الشخصية ولن يقدم على أي عمل مالم يكن هناك مردود ومنفعة تعود عليه، وهنا تكمن الخطورة ، وإلا فإن الأنانية بمعناها المتقدم وهي شعور الانسان باستقلاليته أمراً محموداً باعتباره مقدمة للتضحية، في حين لو نظر الانسان لنفسه بعين الحقارة وكونه لا قيمة له فلن يضحي ، فإذا كان الإنسان أناني بمعنى أنه يحس بالاستقلالية الشخصية أمر جيد حيث يقول لا إله ثم يقول إلاّ الله فيفديه بنفسه وهذا هو الفداء الذي له قيمة، فالله سبحانه وتعالى لا يريد فداءً ليس له قيمة.
ويحضرني موقف لأحد العرفاء في الجمهورية الإسلامية ليلة الهجوم على العراقيين البعثيين في جبهات القتال حيث جُرحت رجله وكان بها ألم شديد، فكان يبكي متأذياً، وعندما سأل لم تبكي قال: أنا أعلم أني سأدخل في هذه الساحة وإن شاء الله يكون نصيبي الاستشهاد في هذه الليلة وأنا مطمئن بذلك ( وقد وصل إلى مقام الشهادة بالفعل)، ولكني أبكي استحياءً من الله سبحانه وتعالى أن رجلي التي سأذهب بها ليست سليمة، وقد أردت الاستشهاد وأنا سليم.
المدرسة الشيطانية
جعلنا الله في هذه الدنيا لننتقل إلى عالم العشق ونصفِّي أنفسنا بهذه الطريقة، ولذلك فالأنانية يجب أن تحدد، أما إذا تجاوزت الحد ووصلت إلى مستوى تغدو فيه ثقافة فستكون سيئة جداً لأنها ستكون حينها ثقافة شيطانية، وهو معنى قول الإمام رضوان الله تعالى عليه : "امريكا الشيطان الأكبر" إذ أن معناه أن الشيطان الأكبر طاغوتاً يرى نفسه ( أنا ربكم الأعلى) وعبر عنه بالشيطان لأنه أول من تكبر وفي القرآن الكريم (وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اسْجُدُوا ِلأَدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنْ الْكَافِرِينَ)(البقرة/34) وقوله: (كَانَ مِنْ الْكَافِرِينَ) يعني أنه كان كذلك منذ البداية لكنه كان كامناً ولكنه لم يظهر إلا عندما توجه له الأمر بالسجود، وهذا أشبه ما يكون بشخص يُمتدح في كل مكان يذهب إليه مذ كان في مرحلة الدراسة لكونه متفوقاً ولكنه عندما خاض الانتخابات خسر لكونهم قد انتخبوا شخصاً آخر وهاهنا يظهر هذا الشخص حقده الكامن إثر هذا الامتحان.
وهو ما جرى في قضية طلحة والزبير، فالزبير كان من الذين بايعوا أمير المؤمنين عليه السلام وخالف الجماعة، كما أنه ممن شارك في تشييع فاطمة الزهراء عليها السلام ليلاً، ولكنه رغم كل ذلك سقط في الامتحان وآل أمره إلى مخالفة أمير المؤمنين عليه السلام والخروج عليه.
أبو موسى الأشعري أيضاً، فقد اشار مالك الأشتر على أمير المؤمنين عليه السلام بتعيين أبي موسى الأشعري والياً، إلاّ أن أمير المؤمنين عليه السلام لم يوافق، لكونه غير مؤهل لذلك خصوصاً بعدما جرى في مسألة التحكيم ، فرغم كون ظاهره التدين والصلاح ولكن أساسه سيء.
وهذا ما يتكرر في سائر الأزمنة فمثلا في عصرنا نجد هناك من كان شديد الولاء للثورة المباركة في الجمهورية لدرجة أن يطلق على قريته القريبة من قم قرية ولاية الفقيه وأصر على هذه التسمية، ولكنه بعد فترة قصيرة من الانتقال القيادة إلى السيد القائد حفظه الله أراد أن يطبع رسالته العملية فاعترض عليه أحد الأشخاص وهنا غضب وأصدر في اليوم التالي بياناً ضد الثورة وضد السيد ولم يصغ لأي من الانتقادات والنصائح التي وجهت إليه حتى انتهى الحال أن يتجرأ ويهتف بالموت للسيد، وبقي على ذاك الموقف حتى توفي ونسأل الله حسن العاقبة له، فقد انقلب لكونه قد تأذى من كلمة سمعها من شخص وهذه الكلمة لا تعبر عن رأي الجمهورية أو السيد القائد، لذلك فإن الأنانية تظهر في هذه المواقف.
والقرآن يقول (وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اسْجُدُوا ِلأَدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنْ الْكَافِرِينَ) والآيات كثيرة في هذا المجال مثلا في آية أخرى: (وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اسْجُدُوا ِلأَدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ كَانَ مِنْ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً)(الكهف/50).
وفي آية أخرى: (قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا لَكَ أَلاَّ تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ)(الحجر/32) فكان جواب إبليس (قَالَ لَمْ أَكُنْ لأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ}(الحجر/33) قَالَ لَمْ أَكُنْ أي أن طبيعتي هي هكذا فأتاه الرد(قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ)(الحجر/34).
وفي آية أخرى: (قَالَ يَاإِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنتَ مِنْ الْعَالِينَ)(ص/75) فلماذا لم يسجد ؟ فهو لم يؤمر بالسجود للجن أو للملائكة وإنما طلب منه السجود لخليفة الله الذي صاغته يدا الجمال والجلال على حد تعبير المرحوم الكاشاني وهو ما ينقله الإمام رضوان الله تعالى عليه عنه عندما سأل عن معنى بيدي.
أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنتَ مِنْ الْعَالِينَ: أي هل استكبرت أم أنك من الذين وصلوا إلى مقامات عالية.
وهاهنا نقطة لطيفة: فالمفسرون تحيروا في المراد من قوله أَمْ كُنتَ وقالوا أنها بمعنى وكنت ، ولكن هذا التفسير غير مقبول؛ فظاهر الآية أن هناك طائفة المستكبرين وطائفة أخرى وهم العالون . وأما قولهم أنه يصدق عليه الأمرين معاً فهو مستكبر وعالٍ في نفس الوقت وهذا مردود لأنه لا يُقال للمستكبر عالٍ، فالعالي هو الذي رفعه الله وأما المستكبر فهو الذي يتقمص ما ليس له ويرى ذلك في نفسه، حيث ان الفعل استكبر بهذا الوزن (بالهمزة والسين والتاء) بها نوع من التصنع والتكلف يعني يتصنع أنه كبير، ومن هنا يُثار هذا السؤال: فمن هم العالون؟
العالون: (قَالَ يَاإِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنتَ مِنْ الْعَالِينَ)(ص/75) الآية بإيرادها لهذا التساؤل (يا إبليس هل انت من مجموعة المستكبرين أم من مجموعة العالين) تشير إلى أن هناك سببان لعدم السجود؟ وهما الاستكبار أو العلو، وهذا يعني أن هناك مجموعة من العالين ممن لم يسجدوا لآدم، وربما يقال أنهم صنف من الملائكة ولكنه مردود بقوله تعالى : (فَسَجَدَ الْمَلاَئِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ)(الحجر/30)، فإن هذا التأكيد القرآني ليبين أن العالين ليسوا ملائكة، فقد اجتمعت في هذه الآية أربع تأكيدات: الألف واللام والجمع وكلهم وأجمعون فالتأكيد قوي هنا.
إذن فمن هم العالون الذين لم يسجدوا ، بل ولم يطلب منهم ذلك.. هؤلاء ليسوا سوى محمد وآل محمد صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.ففي كتاب فضائل الشيعة للصدوق رحمه الله بإسناده عن أبي سعيد الخدري قال: كنا جلوسا مع رسول الله صلى الله عليه واله إذ أقبل إليه رجل فقال: يارسول الله أخبرني عن قول الله عزوجل لابليس: (أستكبرت أم كنت من العالين) فمن هم يارسول الله الذين هم أعلى من الملائكة ؟ فقال رسول الله: أنا وعلي وفاطمة والحسن والحسين: كنا في سرادق العرش نسبح الله وتسبح الملائكة بتسبيحنا قبل أن يخلق الله عزوجل آدم بألفي عام، فلما خلق الله عزوجل آدم أمر الملائكة أن يسجدوا له ولم يأمرنا بالسجود فسجدت الملائكة كلهم إلا ابليس فإنه أبى أن يسجد، فقال الله تبارك وتعالى: " أستكبرت أم كنت من العالين " أي من هؤلاء الخمس المكتوب أسماؤهم في سرادق العرش فنحن باب الله الذي يؤتى منه. بنا يهتدي المهتدون. فمن أحبنا أحبه الله وأسكنه جنته، ومن أبغضنا أبغضه الله وأسكنه ناره، ولا يحبنا إلا من طاب مولده ).
ومن نتائج الأنانية أن إبليس بعد ذلك قال أنا التي هي الإنيّة والأنانية، وهذه أول مرة يقول شخص في مقابل الله أنا (قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ)(ص/76) فالأنانية إذا وصلت إلى هذا الحد تتسبب في السقوط نحو الهاوية، إذ وصل به الحال أن يجادل الله سبحانه ويتحدّاه فنفس ذلك النقاش يدل على الاستكبار.
فأَنَا خَيْرٌ مِنْهُ مقولة من الشيطان أراد بها أن يثبت لله عز وجل رأيه ، ودليله أنه خُلق من نار ويتصور أن كل ما هو مخلوق من نار فهو أفضل من الطين، ولا يخفى أن المخلوق الناري مخلوق خشن، ولهذا يقوم الجن بإيذاء الانسان لأن طبيعتهم ناريّة والطبيعة النارية خشنة بسبب الحرارة الشديدة ، بعكس الطين فطبيعته باردة كما أن بها الصفاء والتذلل والخشوع.
فالأنانية إذاً هي مدرسة الشياطين، وهذه المدرسة انتشرت حالياً في العالم ووصلت إلى بلادنا أيضا، فيقال للانسان فكّر في نفسك واعمل كل شيء لنفسك ولا تهتم بغيرك، وهكذا تدريجياً وصولاً إلى قطيعة الرحم ، وما هذه الأهمية لصلة الرحم كما سائر الأحكام الشرعية إلا من أجل تقوية العشق و إزالة الأنانية .
فما نراه اليوم من عدم التكافل بين الأرحام بل وحتى بين الأخوة يثير الغرابة حقاً والسبب في ذلك يعود لهذه الثقافة الشيطانية.
النقطة الثالثة: موقف الملائكة
ردة فعل الملائكة من خلق آدم متابينة تماماً لموقف الشيطان فهؤلاء العشّاق كانوا يخافون من تحول الأنانية إلى مدرسة، حيث قالوا (وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ)(البقرة/30) فهم قد خاطبوا الله عز وجل بذلك خوفاً من تجاوز الانسان الحد لشخصيته الاستقلالية التي وهبه الله إياها ، ولذا قالوا: وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ، وهنا نلاحظ لطافة التعبير في قوله (قَالُوا سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ)(البقرة/32) فمنطق الملائكة منطق لطيف وليس كالشيطان، الذي انتهى أمره إلى الطرد ؛ ومن هنا نجد الجواب يختلف حيث قيل لهم: (قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ).
أي أن الأمر يستحق فربما يصبح ملياردات من البشر مفسدين ونار جهنم معدة لهؤلاء و لكن من بين هؤلاء سييظهر أبو الفضل العباس سلام الله عليه وهو وإن كان واحداً فقط بيد أنه لا مشكلة في ذلك، ولهذا هم لم يعرفوا أبا الفضل العباسعليه السلام إلا في كربلاء فأدركوا أنه عاشق.. وصاحب راية.. وشخصية كبيرة وسقّاء يحضر الماء مع أن المفروض أن يتولى ذلك شخص غيره.. ولكنه شهيد في سبيل الماء والماء لأولاد الحسين عليهم السلام.. فلم يوجد له مثيل!
ولأجل هذا خلق الإنسان ليكون مظهراً لجمال الله عز وجل، فهو جميل يحب الجمال ويريد أن يُظهِر الجمال. فأبو الفضل عليه السلام سعى جاهداً ليفعل كل ماهو جميل فاستعرض للملائكة كيف يضحِّي الإنسان في سبيل أخيه بهذه الطريقة ، إذاً فهذه الكلمة إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ تعني أنه لولا أهل البيت عليهم السلام ولولا العشق الموجود في محمد وآل محمد بهذا المستوى لما كانت هناك أي قيمة لخلق الإنسان إذ أن أكثرهم لا يعقلون ولا يعلمون، ولهذا لا يستطيع الإنسان أن يبرر فعل الله لولا معرفة أهل البيت عليهم السلام ( لولاك لما خلقت الأفلاك).
وعليه فلا وجه للسؤال عن سبب خلق الإنسان بعد ان يرى الانسان عليّاً و فاطمة!! ولذلك كان سكوتنا بفضل أهل البيت عليهم السلام وإلاّ كنا سنعترض أيضاً كما فعلت الملائكة: (قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ) ، فباب المسجد لا يغلق لأجل أن عشرين شخصا مثلاً لا يصلّون فيه، بل إن صلاة شخص واحد تكفي، ومثال ذلك: أن الحوزة تعطي الطلبة راتباً شهرياً، فلو كانوا 10000 طالب فإنها فتعطي لكل منهم 30000 تومان، أو في العراق مثلا 100 دينار، في حين أن من بين هؤلاء الـ 10000طالب ربما لن يبلغ درجة الإجتهاد منهم سوى خمسة ، ولكن لأن الأمر يستحق فهم يدفعون كل تلك المبالغ.
وهكذا فإن كل هذا العالم خُلق من أجل هؤلاء العشاق الذين قالوا حقيقة لا إله ثم قالوا إلاّ الله وقد قال الإمام رضوان الله تعالى عليه (التهليل الحقيقي والحمد الحقيقي والحوقلة الحقيقية والسجدة الحقيقية لم تصدر إلاّ من محمد وآل محمد وبتبعهم الأنبياء والأولياء).
إذن فالعشق في الواقع هي عدم الأنانية وهي من الجمال بمكان أن حتى ذاك الأناني يرغب في الاستماع لقصص العشاق، كما نرى بعضهم تستهويه مشاهدة الأفلام التي تدور حول التضحية والفداء وهو لا يعرف السبب فهو فطرياً يبحث عمن لا يتصف بالأنانية لأنه يرى أن التضحية أمراً صعب الحدوث.
النقطة الرابعة: هل هناك معيار لتمييز حد الأنانيّة المطلوب من غيرها؟
كيف يعلم الانسان ما إذا كنت متكبراً وأنانياً أم لا؟ وهل هناك ميزان ومعيار ليحدد كونه من المغرورين والمنكبين على الدنيا؟
والجواب على ذلك: إن كل شيء له ميزان إلاّ الأنانية، ولا سبيل لمعرفة تلبس الانسان بها إن لم يمرَّ بتجربة تكشف له ذلك. ففي كلمة للإمام رضوان الله تعالى عليه مخاطباً الوزراء في الجمهورية: (أنت الآن وزير فإذا عزلوك أو لم يعطوك أي منصب حتى وكيلاً للوزارة ، فإذا أحسست في نفسك أنك متأذٍ فاعرف بأنك أناني) وعندها عليك أن تعالج هذه المشكلة، فلتجعل إذاً هذا المعيار نصب عينيك دائماً وهو أمر صعب جداً.
(يقول الشهيد بهشتي رضوان الله تعالى عليه: في يوم من الأيام ذهبنا إلى السيد الإمام (رض) وجلسنا عنده ونحن نبكي من المصيبة التي وقعت على الإسلام جرّاء الهجوم العراقي، إضافةً للقضايا والمصائب الأخرى التي ألمت بنا فبني صدر والذي كان رئيساً للجمهورية آنذاك قد تسبب في الكثير من المشاكل ، فكنا نخاطب الإمام ونحن متألمون، وبعد أن فرغنا من الحديث وكان الناس وقتها يهتفون خارج حسينية جمران "روح من خميني .. بود شكن خميني" يعني روحي خميني ..أنت مكسر الأصنام. هنا قال لنا الإمام رضوان الله تعالى عليه: (هل تسمعون ما يقوله هؤلاء الناس؟ فلو غيروا هتافهم الآن وقالوا مرق بر خميني فلن أتأثر ذرة واحدة ، فهذين الشعارين لهما ذات المستوى لدي، فاذهبوا للعمل في سبيل الله سبحانه وتعالى أفضل لكم، وبإذن الله سوف يحل الله لكم المشاكل)، يقول الشهيد بهشتي: فقمنا في حينها وذهبنا).
إذن فالأنانية ليس لها معيار، إلا أن هناك بعض الناس يلتفتون سريعاً لأي هاجس يشم منه رائحة الأنانية، من قبيل جهاز إنذار الحرائق يتحسس من أقل دخان فيشتغل ويصفر منذراً ومنبهاً، فهؤلاء الناس نتيجة لصفاء قلوبهم بمجرد أن يستشعر التكبر أو تصدر منه كلمة أو حالة خشنة فوراً يتنبه فيقول أستغفر الله ربي وأتوب إليه.
بخلاف البعض الآخر والذي قد غرق في الأناية والتكبر دون أن يستشعر قلبه ذلك، فكلما صفّى الإنسان قلبه أكثر زادت مستوى حساسيته وهذا لطف إلهي ..
مصارع عشاق
الصراع بين الأنانية وبين العشق ظهر جلياً في كربلاء ، وكما قد ذكرنا نماذج لغلبة الأنانية على العشق كقضية الزبير و أبي موسى الأشعري وأمثاله فإننا عندما نتوجه إلى أصحاب الإمام الحسين في كربلاء نرى مواقفاً عجيبة جداً لظهور العشق، فكربلاء مصارع عشاق كما قرأنا في الحديث، لأنهم لم يكونوا مخلصين وحسب بل امتلكوا ماهو أفضل من الإخلاص وهو العشق.
لأنك إن أردت أن تطهر نفسك من الأنانية فعليك أن تكون مخلصاً؛ و ليس من السهل أن يخلص الإنسان بأنه يقوم بعمل والطرف الآخر لا يفهمه وربما يحاربه.
قصة الشامي
ولنا أسوة بمولانا الحسن عليه السلام في قصة مع ذاك الشامي احيث نقل عنه أنه قال : دخلت المدينة فرأيت الحسين بن عليّ سمته ورواؤه واثار من الحسد ما كان يخفيه صدري لأبيه من البغض ، فقلت له : أنت إبن ابي تراب؟ فقال : نعم ، قال : فبالغت في شتمه وشتم أبيه ، فنظر اليّ نظرة عاطف رؤوف فقال : اعوذ باللّه من الشيطان الرجيم ، بسم اللّه الرحمن الرحيم ( خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بَالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ . وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللّه إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ . إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَواْ إذَا مَسَّهُمْ طَئِفٌ مِنَ الشَّيْطَنِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُمْ مُّبْصِرُونَ .وَإِخْونُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِى الْغَيِّ ثُمَّ لاَ يُقْصِرُونَ ) ، ثم قال : خفض عليك استغفر اللّه لي ولك ، انّك لو استعنتنا لاعنّاك ، ولو استرفدتنا لرفدناك ، ولو استرشدتنا لأرشدناك ). يقول الشامي : فتوسّم منّي الندم على ما فرط منّي ، فقال : ( لاَ تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّحِمِينَ ) ، أمن أهل الشام أنت ؟ قلت : نعم ، فقال : شنشنة أعرفها من أخزم ، حيان اللّه واياك ، انبسط الينا في حوائجك وما يعرض لك تجدني عند أفضل ظنّك انشاء اللّه تعالى . فقلت : فضاقت عليّ الأرض بما رحبت ووددت لو ساخت بي ، ثم سللت منه لواذا وما على الأرض أحبّ اليّ منه ومن أبيه العشق يقلب الخمر شهداً .
كان هناك شاب مسلم وكان يحمل إناء فيه خمر جاعلاً الإناء على رأسه، فمر به النبي صلى الله عليه وآله ، وسأله: ماذا في الإناء؟ فخجل الشاب من النبي وأجاب: يوجد به عسل، (أنظر لما يفعله العشق، فكأن الشاب كان يقول : إلهي هذه هي المرة الأخيرة لكي لا أخجل في مقابل النبي صلى الله عليه وآله) فنزّل الشاب الإناء وإذا به عسل، فالله سبحانه وتعالى قلب الخمر إلى عسل لأنّ هذا الشاب أخلص في تلك اللحظة، وطبعاً النبي صلى الله عليه وآله كان يعلم بأن هذا الشاب في هذه اللحظة خجل وتوجه إلى الله سبحانه وتعالى.
نموذج آخر للإخلاص
سمعت مثالاً من أحد العلماء يقول: ربما يذهب رجل إلى البيت فتضع زوجته الطعام أمامه ولنفرض أنها نست إضافة الملح إليه، فهو عندئذ بين خيارين:
- بإمكانه تكسير الإناء وأن يصرخ قائلاً: ماهذا الأكل! ألا تخجلين؟
- أو يقول لزوجته: من فضلك أحضري لي ماءً، وعندما تذهب لإحضار الماء يقوم بوضع الملح في ذلك الطعام وهي لا تعلم، لكيلا تستشعر الخجل.. وهذا هو الإخلاص.
فلو يستطيع أحد أن يفعل هذه الأشياء بدون أن يشعر الطرف الآخر عندها سيصل إلى مستوى الإخلاص.
كربلاء ساحة العشق
كربلاء لم تكن حرباً خشنة، ومن الخطأ تصويرها كساحة حرب، فأرض كربلاء كانت محلاً استعراضياً للعشاق المخلصين فقط، ففيها لا تسمع إلا هتافات: أنا عاشق الحسين وحب الحسين أجنَّني، وهذه المواقف حرية بايجاد تغيير وانقلاب داخلي لمن يشاهد أولئك العشّاق، ولعله من أشد الأمور تأثيراً في الانسان، لأن الانسان بفطرته يهوى العشق،
ولكن المشكلة فيما لو قسا القلب، لإنه حينئذ لو التقى العاشق ولم يستطيع إجابته فسينتظره أن يسقط ليقتله، فهؤلاء الأعداء كانوا منعدمي الشعور، إذ كيف لانسان أن يرى انكسار عاشق ولا يتأثر لهذا المشهد بل ويجهز عليه فور سقوطه.
ولهذا في كربلاء المصائب زادت لأنه في مقابل همجية هؤلاء الأعداء كان هناك عشاق.
لأن العشاق هكذا حتى في قضية زليخة (قَالَتْ فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدتُّهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُوناً مِنَ الصَّاغِرِينَ)(يوسف/32)
فهي لم تتفوه بهذا الكلام إلا لأجل العشق ، فالعشق إمّا أن يجعل الطرف الآخر أفضل صديق أو يجعله أسوأ عدو.
وهؤلاء قساة القلب الذين أتوا من الكوفة ومن الشام ومن أماكن مختلفة عندما واجهوا هؤلاء العشاق (هنا مصارع العشاق) فبدلاً من تغيرهم للأفضل كانوا ينتظرون سقوط هؤلاء العشاق على الأرض، ولأن العشق يفضح أمثال هؤلاء، والعاشق لا يحتاج لأن يتكلم فنفس خروجه يفضح الأعداء فعشق زينب عليها السلام فضحهم ليس بالكلام فقط بل بمواقفها العجيبة ومن هنا أرادوا الانتقام.
إبراهيم الأنصاري