العزلة النبوية
الموضوع: محاضرات متفرقة، العزلة النبوية
قانون العزلة :
ينبغي أن نعلم بأن القوانين الإلهية لا علاقة لها بالقوانين البشرية المادية ، فالإنسان من خلال عقله الناقص ومن خلال فهمه للطبيعة المادية و لوازمها يقنّن و يبرمج ، ولا يلاحظ في تقنينه الأبعاد الباطنية الملكوتية، فكيف بالجوانب العرشية ! لأنّه لا يعرف عنها شيء فكيف يلاحظها بل ربّما يتنزل به جهلُه المركّب إلى مستوى من الانحطاط بحيث ينكر تلك الجوانب المعنوية و يرى أن الطبيعة العمياء الصلبة هي كل شيء و كل شيء هو الطبيعة !
وأمّا الله سبحانه فتخلف قوانينه تماماً سواء للكون أو للإنسان ، خصوصاً ما تتعلّق برقي الإنسان و عروجه ، و لا غرابة في ذلك فهو الله خالق كل شيء و هو أعلم بمخلوقاته (أَلاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ)(الملك/14).
فحينما يقنن سبحانه لا ينظر إلى أبعاد الإنسان الظاهرية المتناهية بل يلاحظ كافة أبعاده و نشأته الأولى و الأخرى ، و لا يسع لنا إلا أن نتعبّد بقوانين الله و نلتزم بأحكامه من دون النقاش و محاولة العثور على الأسرار من خلال التوجه إلى الأمور الدنيوية ! و في ذلك تكون سعادتنا في الدارين ، ولكي يتضحّ ما نقول نذكر مثالين لذلك ثم ندخل في صميم البحث :
الأول: الصدقة مهما كان مقدارها لها دور مهمّ في حفظ الإنسان و المجتمع كما في الحديث ( عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ عليه السلام قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وآله الصَّدَقَةُ تَدْفَعُ مِيتَةَ السَّوْءِ.) الكافي ج4 ؛ ص2 .. فياترى هل نتمكن نحن القاصرون تحليل مثل هذه العبادة بالمعايير المادية ؟ كلا . فهنا ينبغي أن نقول (لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ)(الأنبياء/23).
الثاني: الإنفاق خصوصاً في حال الشدّة و دوره في نمو الرزق قال تعالى : (... وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا)(الطلاق/7). وهل لأهل الدنيا معرفة سرّ مثل هذه الأحكام !
(عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ وَهْبٍ قَالَ: قُلْتُ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ ع الرَّجُلُ يَكُونُ قَدْ غَنِيَ دَهْرَهُ وَ لَهُ مَالٌ وَ هَيْئَةٌ فِي لِبَاسِهِ وَ نَخْوَةٌ ثُمَّ يَذْهَبُ مَالُهُ وَ يَتَغَيَّرُ حَالُهُ فَيَكْرَهُ أَنْ يَشْمَتَ بِهِ عَدُوُّهُ فَيَتَكَلَّفُ مَا يَتَهَيَّأُ بِهِ قَالَ(لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَ مَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتاهُ اللَّهُ) عَلَى قَدْرِ حَالِهِ) ( ج76 ؛ ص313)
الثالث : الإعتزال : وهو من أعظم القوانين الإلهية التي جرت على الأنبياء و الأولياء وغيّرت مصير الأمم حيث أن هذا القانون ينص على أن الرحمة الخاصة و المواهب السنّية إنما تصيب كلّ من اعتزل وخرج من بيته مهاجراً (وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً ..)(النساء/100). ورد في مفهوم (مراغماً) أي مواضع كثيرة كلما منعه مانع في بعضها من إقامة دين الله استراح إلى بعض آخر بالهجرة إليه لإرغام المانع و إسخاطه أو لمنازعته المانع و مساخطته، و يجد سعة في الأرض.
ولذلك نشاهد كثيراً من الأنبياء والأولياء من خلال العزلة شملتهم الرحمة الخاصة الإلهية ووصلوا إلى ما وصلوا من الدرجات الرفيعة و نالوا ما نالو من المنازل العالية، ونشير هنا إلى بعضهم :
1- أصحاب الكهف : قال سبحانه عن لسان أحدهم (وَإِذْ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلاَّ اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرفَقًا)(الكهف/16). فبالهجرة من البلاد و اللجوء إلى الكهف لم تسهل أمورهم فحسب بل وصلوا إلى رشدهم (إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا)(الكهف/10). و ارتبطت قضيتهم بأهم ما سيتحقق في المستقبل وهي الثورة المهدوية المباركة ففي الحديث )وَ أَخَذُوا مَضَاجِعَهُمْ فَصَارُوا إِلَى رَقْدَتِهِمْ إِلَى آخِرِ الزَّمَانِ عِنْدَ خُرُوجِ الْمَهْدِيِ ع فَقَالَ إِنَّ الْمَهْدِيَ ع يُسَلِّمُ عَلَيْهِمْ فَيُحْيِيهِمُ اللَّهُ عَزَّ وَ جَلَّ لَهُ ثُمَّ يَرْجِعُونَ إِلَى رَقْدَتِهِمْ وَ لَا يَقُومُونَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ( عمدة عيون صحاح الأخبار في مناقب إمام الأبرار ؛ ص431 والكهف الحصين و غياث المضطر المستكين و ملجأ الهاربين الذي تجسّد بالإمام الحسين عليه السلام قد أوصل أصحابه من قبلُ و يوصل محبيه طوال الدهر إلى مقامات من الرشد و الرقي بحث يثير عجب أهل السماء من الملائكة المقربين و أرواح الأنبياء و المرسلين ومن هنا تلا رأس الإمام آية الكهف أو السورة بأكملها.
هذا : و نلاحظ في كثير من الآيات بأن الرحمة النازلة من خلال الإعتزل هي الذرية الصالحة وكأن القانون الحتمي يربط بين الإعتزال و الذرية الصالحة ولإثبات ذلك نتطرق إلى عدد من الآيات الواردة في شأن الأنبياء عليهم السلام .
الأولي : مريم بنت عمران عليها سلام الله قال تعالى : (وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذْ انتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا، فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَابًا فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا)(مريم 16 و 17). فابتعدت من أهلها إلى المكان الشرقي ثم المكان القصى فوهبها الله عيسى عليه السلام .
الثانية : إبراهيم عليه السلام (فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلاَّ جَعَلْنَا نَبِيًّا)(مريم/49). فالنبيان أعني إسحاق و يعقوب هما نتيجة للاعتزال الإبراهيمي كما أن النبوة هي رحمة خاصة شملتهما جراء اعتزال أبيهما عليه السلام .
الثالثة: زكريا : (قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلاَمٌ وَقَدْ بَلَغَنِي الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ قَالَ كَذَلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ، قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ إِلاَّ رَمْزًا وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالإِبْكَارِ)(آل عمران40 و 41)
هذا وأهمّ من ذلك كلّه العزلة النبوية إلى مقام (قاب قوسين) ثم الاعتزال عن خديجة عليها السلام أربعين صباحاً ، فيا ترى ماذا كان الهدف من ذلك ؟ إنّه من أجل موهبة عظيمة ألا و هي الحوراء الإنسية عليها سلام الله ، وقد ورد في التأريخ: لما عُرج به الى السماء وتناول التفاحة التي تحولت الى نطفة فاطمة الزهراء في صلبه وهبط الى الأرض لم يواقع خديجة عليها السلام ألا بعد أربعين يوماً حيث جاء النداء : يامحمد العلي يقرؤ عليك السلام وهو يأمرك أن تعتزل عن خديجة أربعين صباحاً ، فشق ذلك على النبي لأنه كان محباً لها قال لها : ياخديجة لاتظني أن أنقطاعي عنك (هجرةٌ ) ولاقلى (البغض) ، ولكن ربي عزوجل أمرني بتنفيذ أمره ، فلا تظني ياخديجة إلا خيراً ، فإن الله عزوجل ليباهي بك كرام ملائكته كل يوم ، فإذا أجنك الليل ردي الباب وخذي مضجعك من فراشك فإني في منزل فاطمة بنت أسد . ثمّ أقبل جبرائيل وقال : يامحمد ربك يقرؤك السلام ويأمرك أن تجعل الليلة أفطارك من هذا الطعام فكشف النبي عن الطبق فإذا عذق من رطب وعنقود من عنب ، فوثب رسول الله الى منزل خديجة فقرع الباب قالت : من هذا الذي يقرع حلقة لايقرعها ألا محمد (صلى الله عليه وآله وسلم ) فنادى الرسول بعذوبة كلامة وحلاوة منطقه فإني محمد وهكذا ولدت الزهراء عليها السلام .
فسلام عليها يوم ولدت و يوم استشهدت و يوم تبعث حيّاً .
إبراهيم الأنصاري
يوم مولد الزهراء عليها السلام
يوم الجمعة 21 جمادي الثاني 1439
الساعة 8:15 صباحاً
إطرح سؤالاً حول هذا الموضوع: