دروس في العقيدة(الفقر الذاتي) الحلقة الثالثة
بسم الله الرحمن الرحيم
دروس في العقيدة الإسلامية
الفقر الذاتي (الدرس الثالث)
مراتب الفقر إلى اللّه تعالى:
التخلّق بأخلاق الله يعدّ الأمر الرئيس الذي لابد وأن يحققه الإنسان، و ذلك من خلال التقوى و المجاهدة في بناء النفس و ترقيتها وإيصالها إلى الكمال المطلوب ، وهذا الأمر مستمرٌّ إلى أن تُستهلك مشيّةُ العبد في مشيئة الله بحيث لا يتعلّق قلبه بشئ ما سوى اللّه؛ (وَمَا تَشَاءُونَ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ)(التكوير/29).
الجدير بالذكر أنّ الله يأمر موسى بن عمران بأن يخلع نعليه (إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِي الْمُقَدَّسِ طُوًى)(طه/12). وهذا يعني قطع التعلّقات الدنيوية عن قلبه الذي هو في الحقيقة الوادي المقدّس ، يقول الإمام الخميني قدّس سرّه ( ان موسى في الميعاد خوطب بخطاب فاخلع نعليك وقد فسّر بمحبة الاهل ، والرسول الخاتم قد أمر في ميعاده بأن يحب علياً ) يقصد بذلك في ليلة المعراج حيث أمر بعدم نزع النعلين، أى: عدم قطع العلائق و المحبّة المتعلّقة بأهل بيته عليهم السّلام، لأنّ محبّتهم هو محبّة اللّه تعالى بعينه .
و لذلك قالوا: «إذا تمّ الفقر ظهر الفناء، و ظهرت محبّة اللّه) وفي الحديث: «إذا تخلّى القلب عن الدنيا سما و وجَد حلاوة حبّ اللّه». فالفقير الحقيقي هو من لا يملك فعلا و لا صفة بل و لا وجودا أبداً ، و حينئذٍ يشهد بأنّ المُلكُ للّهِ الواحدِ القهّار «لِمَنْ الْمُلْکُ الْیَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ» (غافر/ 16)
و سيظهر فقر وفاقة أهل العالم ظهورا كلياً في يوم القيامة و الكلّ سيشهد كمال ضعفه و عجزه بالوجدان ، و وجدان الفقر هو إدراك التوحيد بعينه .
وهذا الإدراك يشمل :
أولا: المالكية الإلهية :
وهي القدرة و السلطنة الإلهيه ، وقد صرّ بذلك في كثير من الآيات القرآنية أهمّها قوله تعالى:
«قُلْ اللَّهُمَّ مَالِکَ الْمُلْکِ تُؤْتِی الْمُلْکَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْکَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِیَدِکَ الْخَیْرُ إِنَّکَ عَلَى کُلِّ شَیْ قَدِیرٌ» (آلعمران/ 26)
وقوله:
«أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْکُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا لَکُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِیٍّ وَلَا نَصِیرٍ» (بقره/ 107)
قال العلاّمة ره في الميزان :
( الله سبحانه مالك كل شيء ملكا مطلقا أما أنه مالك لكل شيء على الإطلاق فلأن له الربوبية المطلقة و القيمومة المطلقة على كل شيء فإنه خالق كل شيء و إله كل شيء...و أما أنه مليك على الإطلاق فهو لازم إطلاق كونه مالكا للموجودات فإن الموجودات أنفسها يملك بعضها بعضا كالأسباب حيث تملك مسبباتها، و الأشياء تملك قواها الفعالة، و القوى الفعالة تملك أفعالها كالإنسان يملك اعضاءه و قواه الفعالة من سمع و بصر و غير ذلك، و هي تملك أفعالها، و إذ كان الله سبحانه يملك كل شيء فهو يملك كل من يملك منها شيئا، و يملك ما يملكه)
ولذلك قال مخاطباً لرسوله «قُلْ لَا أَمْلِك لِنَفْسِی ضَرًّا وَلَا نَفْعًا» (یونس/49) و قال «وَمَا أَمْلِك لَك مِنْ اللَّهِ مِنْ شَیْ». (ممتحنه/ 4) وعلى هذا ، كل من يملك لابد أن يكون ملكه بإذن الله تعالى و هذا يشمل الأفعال أيضاً كالاكل و الذهاب و التكلم و غيرها لأنّها جميعاً من نعم الله تعالى إن شاء سلبها منه و ليست للإنسان مثقال ذرّة من الإرادة في قبال إرادة الله تعالى .
يقول العلامة ره : (السبب الرئيس لوجوب إمتثال أوامر الله هو أن الأمرَ، أمرُه ، لا لأنّ إمتثال أوامر الله فيه مصلحةٌ أو خيرٌ للعبد الذي يسلم نفسه للمعبود و تصبح ارادته هي ارادة المعبود و ليس لديه هدف سوى رضى المعبود و العمل بوظائف العبودية ، هذا العبد من الطبيعة أن لا يرى نفسه مستحق الثواب مقابل اعماله)
ثانياً: الهداية الإلهية:
الهداية على قسمين:
القسم الاول: إرائة الطريق «إِنَّا هَدَیْنَاهُ السَّبِیلَ إِمَّا شَاکِرًا وَإِمَّا کَفُورًا» (دهر/ 3)
القسم الثاني : الايصال إلى المطلوب بمعنى أنّه يُمسك بيد العبد و يصله الى المقصد كما نشاهد في الآيتين : «وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَکِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ» (اعراف/ 176) و «فَمَنْ یُرِدْ اللَّهُ أَنْ یَهدِیَهُ یَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ» (انعام/ 125)
هذا القسم من الهداية هو ايجاد نور خاص في قلب الانسان ، الذي بسببه تصبح للانسان قابلية باطنية خاصة لتقبُّل المفاهيم و شهود الحقائق الدينية ، و حينها سوف ينكشف له الحق و الباطل و يستطيع أن يسلك الطريق دون أدنى إنحراف.
القرآن الكريم قد نفى الهدايةَ لغير الله تعالى و أحصرها بالله تعالى فهو الهادي لا غير «إِنَّ عَلَیْنَا لَلْهُدَى» (لیل/ 12) و «وَاللَّهُ یَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ یَهْدِی السَّبِیلَ». (احزاب/ 4) و كذلك خاطب نبيه صلى الله عليه و آله : «إِنّك لَا تَهْدِی مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَکِنَّ اللَّهَ یَهْدِی مَنْ یَشَاءُ». (قصص/ 56)
فإذن الهداية بقسميه ( إرائة طريق و الإيصال إلى المطلوب) لله سبحانه و تعالى و الله هو الهادي و المرشد بالذات .
و لكنه تعالى أذن لأنبيائه و أمرهم بهداية الناس و لكن هدايتهم عليهم السلام ليست على وجه الاستقلال لان الهداية الاستقلالية منحصرة به سبحانه.
ثالثا: الرزاقیة الإلهیة:
الرزق هو هو كل منفعة حاصلة للانسان و هو من شئوون الربوبية ، و لكن الانسان لابد أن يسعى في تحصيل الرزق و لا يترك الاسباب ، و لكنه لا بدّ و أن يرى الله وحده مستقلاً في الرزاقية و جميع الاسباب و المسببات رهينة إذن الله تعالى .
وينبغي للعبد أن يؤمن بأن الله هو الرازق بالذات «أَوَلَمْ یَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ یَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ یَشَاءُ وَیَقْدِرُ» (زمر/ 52)
باعتقاد العلامة الطباطبائي المقصود هنا ب«لمن یشاء» أن مشية الانسان الذي يغتر بها ليست لها دخل في الرازقية لأن كل ما يجري في الكون جاري على مشية الله سبحانه (المیزان: 1/ 437) «إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِینُ.» (ذاریات/ 58)
فأذا الله هو المالك لكل شئ من جميع الجهات ، و المالكية أو الرزاقية لغير الله تكون باذن الله تعالى و تحت مشيئة الله سبحانه.
النتيجة من البحث:
و النتيجة هي أن جميع تعاليم الله مبتنية على أربعة أمور:
الأول: ادراك الانسان فقره و ضعفه وعجزه.
الثاني: المعرفة التوحيدية التي يحصل عليها الانسان بمقدار ادراك فقره و ضعفه وعجزه فكلما توجه الانسان الى عظمة و جلالة المقام الربوبي أكثر، أدرك شدة فقره و حاجته اكثر، و لا يغتر بعباداته و مقاماته المعنويه لأنه يعلم ان جميعها من الله و لله سبحانه و أنه فقير بالذات و لا يملك لنسفه نفعاً و لا ضراً .
الثالث:الرذائل من الصفات التي هي سبب لهلاك الانسان كالحسد و التكبر و العجب جميعها نابعة من أنفس تتوهم غنى ذاتها .
الرابع: إنّ الله هو الكمال المطلق، و الكمالات التي يملكها الانسان ليست هي إلا شعاع مَفيضٌ من نور الكمال الالهي .
اذا ادرك الانسان هذا الامر و آمن به ينقلب حال الانسان و يصبح كالأولياء، إنساناً موحِّداً في جميع شئون حياته و يصبح متوجهاً دائما الى عظمة الحقّ و فقره الذاتي و يرى أن كلّ ما يملكه هي دولة الفقر .
آثار الاعتقاد بالفقر:
الاعتقاد بالفقر و العجز له اثار كثيرة على حياة الانسان فأشدّ أثره هو ان الانسان اذا ادرك عجزه و فقره و شاهد بالوجدان أنه فقير محض بل فقرٌ محض و أن كل ما سوى الله فقراء و عين الربط بالله ، هنا يظهر له توحيد الحق تعالى و يصل الى التوحيد الأفعالي و الصفاتي و الذاتي و بذلك يصل إلى الكمال الذي خُلق من أجله.
و أيضا اذا شاهد الانسان فقره المحض بالوجدان يرى أن هناك لا ذات و لا وصف و لا فعل الا لله سبحانه و تعالى ، فيصفى قلبه من ما سوى الله و لا يحكم على قلبه غير الله فيصبح القلب خالياً من الشرك و متوجهاً نحو الله في كلّ آن و هذا المحصول الانساني هو غرض الخلق و غاية دعوة الانبياء و فلسفة وجود جميع العوالم.
رزقنا الله تعالى شهود فقرنا بحق من افتخر بالفقر
والحمد لله ربّ العالمين و صلى الله على محمّد و آله الطاهرين
مريم إبراهيم الأنصاري