الرسالة الأولى: رمضان،شهر اكتساب المعرفة وازدياد البصيرة
بسم الله الرحمن الرحیم
الحمد لله رب العالمین و صلّی الله علی محمد و آله الطاهرین و لعنة الله علی أعدائهم أجمعین
نبارك لكم حلول شهر رمضان المبارك الذي أنزل فيه القرآن، شهر الضيافة الخاصة الإلهية، شهر الأنوار والبركات الممتدة، شهر الله تعالى، فنسأل الله تعالى أن يوفقنا للاستفادة القصوى منها، وأن يرزقنا جواهره الثمينة.
هذه رسائل بسيطة بعناوين مختلفة، تتضمن أموراً تساعدنا على تهيئة أنفسنا لاستقبال الشهر الفضيل ومزيد من الاستفادة منه ان شاءلله.
الرسالة الأولى:
رمضان، شهر اكتساب المعرفة وازدياد البصيرة
إن أغلب المشاكل والبلايا والمخاطر التي يواجهها الإنسان في حياته، قد تكون بسبب الذنوب التي ارتكبها، فللخلاص منها ومن ثمّ الوصول إلى السعادة الأبدية ليس لنا إلا الابتعاد عن الذنوب مهما كلّف الأمر!
هنا سؤال يطرح نفسه وهو:
ما هي العوامل و الأسباب التي تجرّ الإنسان لإارتكاب الذنوب رغم قبحها ودناءتها؟
إنّ السبب الأول والرئيسي هو الجهل وعدم امتلاك المعرفة المطلوبة والبصيرة اللازمة.
- ومن هنا يتّضح لنا مدى أهمية اكتساب العلوم والمعارف الحقّة، تلك التّي حثّت عليها عشرات الآيات المباركة ومئات الأحاديث الشريفة.
وهل يصدر من العارف البصير زللٌ لا يُرضي الربّ الخبير؟
كلا ثمّ كلا!
إنّ ذلك من المستحيلات التّي لا مجال لها في هذه الساحة الروحانية؛ أعني القلب السليم، لذلك العارفِ بالله و جوارحه الطاهرة!
ولك أن تسألني عن هذا الإدعاء أعني (إستحالة اجتراح الذنوب من قِبَل العارف بالله) فأقول:
هناك قاعدة عقلية لا غبار عليها وهي:
- استحالة تقدم المرجوح على الراجح، وهي من المحالات العقلية المسلَّمة لدى بني البشر، كتقدم القبيحِ على الحسن، وتقدم المهمّ على الأهم، وتقدم الشر على الخير؛ فلايمكن لأي عاقل أن يترك الجميل الحسن ويختار القبيح، اللهم إلا إذا أخطأ في تمييز الحسن من القبيح فاختار القبيح زعماً منه أنّه هو حسنٌ جميل، وذلك لأسباب جعلته يخطئ في الانتخاب والترجيح فرأى السراب ماءً وسعى إليه ليُروي عطشه!
اعتماداً على هذه القاعدة أعود إلى الموضوع فأقول:
إنه لا شكّ بأن الذنوب في حدّ ذاتها والتّي هي التجرّي على ربّ العالمين وعصيانه ومخالفته، شرورٌ قبيحة ليست في اجتراحها لذّة أبداً، فالذي يختارها و يرتكبها إنّما اشتبه عليه الأمر، حيث توهّم اللذة والسعادة فيها وذلك لعدم بصيرته ووعيه، ولجهله عن حقيقتها القبيحة القذرة، ولذلك لم تكن باستطاعته رؤيتها على صورتها الحقيقية، فبالنتيجة قد توهّم فيها الجمال وتخيّل في إيجادها اللذة فتقرّب إليها وتورط في مستنقعها.
فعلى سبيل المثال إذا علم الإنسان أن الماء الموجود في الكأس قذرٌ أو سامٌّ مُهلك، فمن الواضح أنّه لن يشرب منه البتّة، ولو شرب فبسبب عدم علمه بقذارته أو مسموميته!
ولا يخفى عليك أنّ هناك فرقاً بين الإنسان الذي لا يرتكب الذنوب ولكنه يشعر بالحرمان (الحرمان من اللذة الوهمية التي يراها حقيقية بسبب الجهل)، وبين الذي لايرتكب الذنوب، لأنه ينزعج منها ويراها قاذورات وقبائح لا تليق به كإنسان.
فبالنسبة إلى الأول هناك خطورة تواجهه، وهي أنّه ربّما يتمايل إلى ارتكاب الذنب في يوم ما فيسقط في الهاوية، وأما بالنسبة إلى الثاني فمن المستحيل أن يرتكب الشطط ويتقرّب إلى ما يورث هلاك النفس وغضب الربّ.
- هذا هو حال المعصوم عليه السلام، فهو يرى حقيقة الذنوب وقبحها فلا يتقرّب إليها أبداً كيف وهو يراها نجاسة منفورة مشمئزّة!
فإذاً المعرفة لها الدور الأهم والأولوية الأولى في مواقفنا وأعمالنا، لأنها هي التي تبين لنا حقائق الأمور التّي من خلالها نميّز الحق من الباطل، وهي التي تُظهر لنا عبوديتنا التي هي حقيقتنا التّي من أجلها خلقنا، ومن ثم تثير فينا -المعرفة- شعورَ الحاجة إلى المولى وإحساس الفقر إلى الربّ.
إنّ شهر رمضان المبارك هو أفضل فرصة لنيل المعرفة واكتساب البصيرة، إن شهر رمضان المبارك له شأنٌ خاص وشرفٌ عظيم، ولأنّه شهر الله تعالی فهو من الأزمنة الاستثنائية التي تختلف فيها المعادلات والمعايير والحسابات عن غيرها من الأزمنة، كما أنّه تتضاعف ثواب الأعمال فيها، وكلّنا نعلم بأنّ قراءة آية من القرآن الكريم في هذا الشهر تعادل ثواب ختم القرآن بالكامل!
ولنعلم بأنّ هذه القاعدة لا تنطبق على قراءة القرآن فقط، ولا على العبادات كالصلاة والصوم؛ بل إن كلَّ ما يشتمل على النور والخير سوف يشتد نورُه في هذا الشهر النوراني، وفي المقابل كلّ ما يشتمل على الشرور والظلمات سوف تنعدم أو تقل آثاره في هذا الشهر الفضيل.
ومن المعلوم أنّ كلّ عملٍ ينطلق من نية إلهية خالصة سيصبح عبادةً وخيراً ونوراً، ويتضاعف ثوابه، وتشتد آثاره في شهر الله، حتّى النوم قربة إلى الله في شهر رمضان أفضل بكثير من النوم بالنية نفسها في غيرِ شهر رمضان، وكذلك باقي الأعمال كالطبخ والكوي والتعليم و الخ بقصد التقرّب إلى الله.
وأما الإنسان الكيّس اللبيب هو الذي يختار الأهم و الأفضل والأصعب الذي لايسهل إلا في شهر رمضان.
العلم نور يقذفه الله في قلب من يشاء:
العلوم المكتسبة في شهر رمضان تختلف عن العلوم المكتسبة في غيره وإن كانت تتضمّن نفس المعلومات، ولكن بلحاظِ الشرافة الخاصة المتواجدة في هذا الشهر تصبح العلوم المكتسبة فيه ذات أنوار أشدّ وتأثيرها أعمق البتة، تحوّلُ حالَ الإنسان وتوقظه من سبات الغفلة وتنطلق به إلى ساحة الذاكرين.
أعزّائي: فلنخصّص خلال هذا الشهر المبارك يومياً ساعاتٍ لكسب المعارف الإلهية الحقَّة وللاستماع إلى المحاضرات الدينيّة التي تزيدنا وعيًا وبصيرة، بل لو أننا إذ قضينا الشهر بأكمله فقط لكسب المعارف الحقَّة، لكُنَّا أدينا حق شهر رمضان المبارك، لأنّه بالمعرفة يتعرف العبد على مولاه فيتعلق به، ثم يتخلَّق بصفاته و أسمائه، ثم ينقلب كيانه إلى حقيقة ربّانية وهي الكمالُ الإنساني.
والحمد لله ربّ العالمين.
مريم الأنصاري
29 شعبان 1442
البحرين