الرسالة الثالثة: رمضان، شهر تعويض الخسائر
بسم الله الرحمن الرحیم
الحمد لله رب العالمین و صلّی الله علی محمد و آله الطاهرین و لعنة الله علی أعدائهم أجمعین
نبارك لكم حلول شهر رمضان المبارك الذي أنزل فيه القرآن، شهر الضيافة الخاصة الإلهية، شهر الأنوار والبركات الممتدة، شهر الله تعالى، فنسأل الله تعالى أن يوفقنا للاستفادة القصوى منه، وأن يرزقنا جواهره الثمينة.
هذه رسائل بسيطة بعناوين مختلفة، تتضمن أموراً تساعدنا على تهيئة أنفسنا لاستقبال الشهر الفضيل ومزيد من الاستفادة منه ان شاءلله.
الرسالة الثالثة:
رمضان، شهر تعويض الخسائر
الدنيا هي ميدان السباق، والمتسابق فيها هو الإنسان الذي يُسابِق غيره في الوصول إلى الكمال.
وكما نعلم، فإنّ الزمان قد يكون من أهم الأمور في المسابقة، فكلما كان المتسابق أسرع كلما اقترب إلى هدفه ومقصده بشكلٍ أسرع ونال المناصب والمراتب العليا.
ومن هنا تتضح لنا أهمية الزمان في الوصول إلى الكمالات، كما قال سبحانه في كتابه المبين (السابقون السابقون أولئك المقربون)
وأما البطيء المتسوف فقد تعقبه خسائر كبيرة وأضرار عديدة.
ولكن هنا سؤال يطرح نفسه:
هل يمكن للمبطئ الخاسر تعويض الخسائر وتعويض الأضرار؟
الجواب: نعم، فإن خالق السباق رحيمٌ بعباده، ومن منطلق رحمته جعل هناك فرصاً استثنائية قد تكون زمانية أو مكانية، يستطيع المتسابق من خلالها تعويض خسائره وما فاته من الزمن، وزيادة سرعته أكثر فأكثر، بل يستطيع أن يطوي مسير مائة سنة في ليلة واحدة.
لأن في هذه المستثنيات الزمانية والمكانية قد تتغير المعايير والمعادلات والحسابات وتشتد فيها الأنوار وآثار الخيرات .
المستثنيات المكانية هي الأماكن التي لها شرافة خاصة (بيوت أذن الله أن تُرفَع) كحرم أبي عبدالله الحسين عليه السلام، فلا شك في أن صلاة ركعتين في البيت تختلف تماماً عن إقامتها في حرم أبي عبدالله الحسين، أو الدعاء في المسجد يختلف عن الدعاء تحت قبة سيد الشهداء، فالثاني أشد نوراً وأثراً
وأما المستثنيات الزمانية فهي الأزمنة التي لها شرافة خاصة كليلةِ القدر ولية النصف من شعبان و الأشهر الحُرُم على الخصوص رجب وشعبان ورمضان.
ولكن هناك أيضا مستويات ومراتب في الفرص الاستثنائية الزمانية والمكانية؛ فالمسجد مثلا له شرافة عظيمة ولكن عظمته تقل عن عظمة حرم أبي عبدالله الحسين عليه السلام.
كذلك بالنسبة للاستثناءات الزمانية فأعظمها وأشرفها ليلة القدر التي تساوي ثلاثاً وثمانين سنة عبادة، ويأتي بعدها شهر رمضان المبارك لأنه وعاءٌ وظرفٌ لهذه الجوهرة الثمينة -أعني ليلة القدر-
نحن في شهر رجب كنا في ضيافة أمير المؤمنين وفي شهر شعبان كنا في ضيافة رسول الله صلى الله عليه وآله، وكانت أبواب الرحمة مفتَّحةً علينا ببركتهما، وكنا نستطيع الحصول على الأنوار والجواهر الثمينة بمجرد الطلب والدعاء، بمعنى أن الحائل الوحيد بيننا وبين هذه الأنوار والجواهر الثمينة كان هو الطلب، ولم يكن يراد منّا شيئاً غيره، فكان الطلب هو الشرط اللازم والكافي للحصول عليها.
وفي شهر رمضان المبارك نحن في الضيافة الإلهية الخاصة وأيضا أبواب الرحمة مفتوحة، والأنوار نازلة، ومائدة الخيرات والكمالات مفروشةٌ ثلاثين يوماً، وأما الفرق بينه وبين شهري رجب وشعبان، هو أنه في شهر رمضان المبارك لا يوجد أيّ حائل بيننا وبين هذه الأنوار والجواهر الثمينة، فليس علينا أن نطلب لكي نحصل، بل كل ما علينا هو أن نمد أيدينا ونأخذ ما نريده من هذه المائدة، فعلى سبيل المثال من يجلس على مائدة الطعام قبيحٌ عليه أن يطلب الطعام بل عليه أن يمد يده ويأخذ ما يشتهي.
كذلك حال الإنسان في شهر رمضان المبارك، فالأنوار موجودة، والرحمة الرحيمية نازلة، والفيوضات الإلهية تعم الجميع، فكل ماعلينا هو الأخذ والإقتناء فقط.
ولكن هنا سؤال يطرح نفسه:
لماذا هناك فئة من الناس ينتهي بهم الشهر من دون أية ثمرة و فائدة؟
الجواب : هناك شرطان رئيسان متلازمان من أجل الاستفادة من هذه الضيافة الإلهية واستغلالها لتعويض الخسائر:
الأول: هو الشعور بالحاجة
والثاني: هو التوجه إلى الضيافة
توضيح:
سوف نستعين بمثال توضيحي لتشبيه المعقول بالمحسوس :
لنتصور أنفسنا جالسين على مائدة الطعام وفيها كل ما لذَّ وطاب وما تشتهي الأنفس ولكننا لا نشعر بالجوع بل نشعر بالتُّخمة بحيث أننا لا نقدر على الأكل، في هذه الحالة هل نستفيد من الطعام المتواجد على المائدة؟ وهل سنمد أيدينا لأخذ الطعام؟ بالتأكيد لا!
أو لنتصور أننا نشعر بالجوع الكثير ولكننا جالسون في غرفة مغلقة ولا نعلم أن هناك مائدة طعام فيها الملذّات خارج هذه الغرفة ، فنتحمل ألم الجوع ولا نستفيد من الموجود.
كذلك هو حال الإنسان الذي لا يشعر بالحاجة في شهر رمضان، أو الذي يشعر بها ولكنه لا يكون متوجهًا إلى هذه الضيافة الإلهية بل مشغولاً عنها بالدنيا وما فيها، فكلاهما خاسران.
كما هو حال المتسابق البطئ الذي ضاعت منه فرصٌ كثيرة، ولا يعلم بهذه الخسائر أو أنه يعلم بها ولا يعلم أنّ بإمكانه تعويض خسائره والإزدياد في سرعته في هذه الفرصة الاستثنائية.
- فعلینا أنْ ندعوا الله سبحانه في هذا الشهر الفضيل ونطلب منه أن يقذف في قلوبنا إحساس الحاجة إليه، و أن ينوِّر قلوبنا لكي نتوجه إليه جلَّ وعلا بصورةٍ دائمة ولا نغفل عنه آناً واحداً.
إنَّ شهر رمضان المبارك كالطريق المختصر للمتأخر عن المقصد، ففيه تتضاعف ثواب الأعمال وتشتد الأنوار وتنزل الفيوضات الإلهية والرحمة الرحيمية.
أيها الأعزاء علينا أن نصغر بالحاجة إلى الله وبالجوع إلى كرمه ولطفه أولاً، ونتوجه إلى حضوره الخاص في كل آنٍ ثانياً، إذ نحن في ضيافته الخاصة، ولابد أن نستغل هذه الفرصة الذهبية لتعويض الخسائر، ولزيادة سرعتنا في الوصول إلى لقائه سبحانه وهو الوصول إلى السعادة الأبدية؛ فهذا هو الكمال الأخير الإنساني، ليس وراءه كمال (إنّ إلى ربّك المنتهى)
والحمد لله ربّ العالمين.
مريم الأنصاري
29 شعبان 1442